كتبها مذكراً إخوانه سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من عاداك وخالف أمرك؛ اللهم هذا الدعاء، وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان:
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم أسباب الخزي والفضائح، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أما بعد: فقد رأيتم الواقع، وهو تأخر نزول الغيث عن إبانه، وقحوط المطر وعدم مجيئه في أزمانه، ولا ريب أن سبب ذلك هو معاصي الله، ومخالفة أمره بترك الواجبات، وارتكاب المحرمات.
فإنه ما من شر في العالم ولا فساد، ولا نقص ديني أو دنيوي، إلا وسببه والمخالفات، كما أنه ما من خير في العالم، ولا نعمة دينية أو دنيوية، إلا وسببها طاعة الله تعالى، وإقامة دينه.
قال الله تعالى: (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ))، فإن معنى الآية: ((وَمَا أَصَابَكُمْ)) أيهاالناس (( مِنْ مُصِيبَةٍ ))، في الدين أو في الدنيا، في أنفسكم وأهليكم وأموالكم((فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)) يعني: إنما يصيبكم ذلك عقوبة لكم، بما اجترحتموه من الآثام، فيما بينكم وبين ربكم، ))ويعفوا)) لكم ربكم ((عن كثير)) من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها، فإنه تعالى لو عاقب عباده بإجرامهم، ما بقي على ظهرها من دابة، كما قال تعالى((وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)).
قال الحسن رحمه الله:لما نزلت هذه الآية(( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ)) قال النبيe: والذي نفسي بيده لا يصيب ابن آدم خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
وقال علي رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
وفي دعاء العباس، عم النبيe حين استسقى به عمر، والصحابة رضي الله عنهم، عام الرمادة: اللهم إنه لا ينْزل بلاء إلا بذنب،ولم يكشف إلا بتوبة،وهذه أكفنا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة،فأسقنا.
وفي الحديث: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وقال تعالى (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)).
وقال تعالى في حق أهل الكتاب (( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ))، يعني: لأنزل الله عليهم من السماء قطرها، وأخرجت لهم الأرض ثمارها. وقوله (( وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ))، فإنه يعني: لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها، وثمارها، وسائر ما يؤكل مما تخرجه، قال ابن عباس (( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ)) ، يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا(( وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ))، تخرج الأرض بركتها. جاء في تفسير، قوله تعالى((وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ ))، عن مجاهد قال: إذا أسنت السنة، قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم. وعن مجاهد أيضا، قال: تلعنهم دواب الأرض، وما شاء الله، حتى الخنافس والعقارب، تقول نمنع القطر بذنوبهم.
وروى ابن ماجه في سننه، من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال وأعوذ بالله أن تدركوهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع، التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤونة،وجور السلطان.
وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء،ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم،فأخذوا بعض ما في أيديهم . وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم.
ومعنى قوله e: ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ظاهر، والسنين: جمع سنة، والسنة: هي الجدب. وهذا من حكمة الله تعالى وعدله في خلقه، وهو مجازاتهم من جنس أعمالهم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ وفي الجدب، وشدة المؤونة،وجور السلطان،من نقص الأموال ما يعرفه كل أحد، جزاء لبخسهم الناس حقوقهم وأموالهم، بنقص المكيال والميزان، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد. وقد جاء في هذا الذنب من الوعيد، والإخبار بما أحل الله بفاعليه، من سالف الأمم، ما هو معلوم، وإنما حرم ذلك وغلظ تحريمه، لأنه من أعظم الظلم، وأكل المال بالباطل.
ومما يدخل أيضا في أكل أموال الناس بالباطل: ما يكتب بالعقود الفاسدة، والمعاملات المحرمة، التي تمادى فيها أكثر الناس، فإن ما يصير من الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري حرام؛ فإن مال المسلم لا يحل إلا بطيبة نفس منه، إما بهبة شرعية، أو بعقد شرعي، وأعظم ذلك كله الربا في المعاملات.
قال الله تعالى ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )).
وقوله صلى الله عليه وسلم: وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، واضح في : أن لهذا الذنب خصوصية في منع القطر من السماء، فإنه من أعظم الذنوب ؛ لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله.
وكثير من الناس لا يؤدي الزكاة المفروضة من الأموال الخفية إما بخلا- والعياذ بالله- أو جهلا ببعض تفاصيل الواجب من الشروط، كالنصاب، وغير ذلك؛ فإنه إذا كان عند الإنسان ثلاثة وعشرون ريالا. فرانسيا، فحال عليها الحول، وجبت فيه الزكاة.
وقوله: ولولا البهائم لم يمطروا يدل على أن ما ينْزله الله تعالى من المطر في بعض الأحيان، رحمة للبهائم التي لا جرم لها. ويشهد لهذا ما رواه أبو يعلى، والبزار، من حديث أبي هريرة: مهلا عن الله مهلا، فإنه لولا شباب خشع، وبهائم رتع، وأطفال رضع، لصب عليكم العذاب صبا .
وروى أبو نعيم من حديث أبي الزاهرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم إلا وينادي مناد: مهلا أيها الناس مهلا، فإن لله سطوات، ولولا رجال خشع، وصبيان رضع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صبا، ثم لرضضتم به رضا.
وفي قوله e: وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم مشابهة ظاهرة لقوله تعالى ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ )) إلى قوله((فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )) في ذلك كله التحذير للأئمة- وهم من يقتدى بهم، من العلماء والأمراء من ترك العمل بما في كتاب الله، وهو دينه الذي دل عليه الكتاب والسنة، فإن هذه العقوبة، وهي: إغراء الله بينهم
العداوة والبغضاء، وجعله تعالى بأسهم بينهم، بها انثلال عرش
الديانات، وانحلال نظام الولايات، وتفرق الجماعات، وانتهاك المحرمات، وتسليط أهل الكفر والضلالات.
فعلى من يقتدى بهم خصوصا، وسائر المسلمين عموما أن يتقوا الله تعالى، فإن بتقواه تعالى دوام الخير الموجود، واستجلاب ما عند الله من الفضل المفقود، وأن يعتنوا بهذا المقام، وأن يراعوه حق رعايته، في أنفسهم، وفيمن تحت أيديهم، علما وعملا، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر. فيا عباد الله: التوبة التوبة ! تفلحوا وتنجحوا، وتستقيم أحوالكم وتصلحوا، قال الله تعالى (( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)).
وارجعوا إلى ربكم بالتجرد والتخلص من حقوق الله التي له قبلكم، واخرجوا من جميع المظالم التي عند بعضكم لبعض، وأكثروا من الاستغفار، بقلب يقظان حاضر، معترف بالذنوب، مقر بالتقصير والعيوب، وأديموا التضرع لرب الأرباب، يدر عليكم الرزق من السحاب. أحسنوا إلى المحاويج، وارحموهم، يحسن الله إليكم. ويرحمكم بغيث السماء، وفي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. وأكثروا من الصدقة، واتركوا التشاحن، والتهاجر، والتقاطع بينكم، وغير ذلك مما هو من أسباب عدم إجابة الدعاء.
اللهم انصر دينك ونبيك، اللهم أعل كلمتك وأيد حزبك الموحدين، واجعلنا منهم يا أرحم الراحمين، فأنت على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه ....