تحت سقف الوحدة ... يعادل من حيث المبدأ شعار الوحدة أو الموت ، أو أنه صِنْوٌ جديد له ، خُلِقَ في ظروف اعتباريه تَشَقَّقَ عندها النظام وتحلل إلى منصات تقف عليها مراكز القوى القديمة الرئيسة في تنازع محموم على السلطة والمصالح .
إنَّ تجديد المواقف بعد ثورة التغيير ، من خلال وضع عبارة (سقف الوحدة) هي عملية شبيهه بزراعة أعضاء منقولة إلى ذات الجسد المريض بحيث تعمل لتمكينه من البقاء قيد الحياة بعد ان فشلت أعضاءه القديمة وظيفياً ، ومعها تقود بالطبع لتزييف جديد لوعي تم تزييفه مرات عديدة حتى أضحى مثل جدارية ملطخه بطبعات كفوف سوداء قديمة وحديثه لا تُلْهِم الواقف أمامها بأي قراءة ما، ولا تحمل أي دلاله ... حيث يتم ترسيخ الأوضاع والمفاهيم القديمة من خلال صناعة جديدة للشعارات التي تبدو للمستهلك العادي بأنها تحمل نوايا حسنه .
إن الحوار أو التفاوض كآلية ووسيلة يفترض أنها تتم بمعايير يقبلها الطرف المنهوب والمُعتدى عليه ، وهذه بديهية في إي منهج عدلي ، لكن المشهد هنا مختلف تماماً فالحوار مع الجنوب يُرَاد له ان يتم تحت سقف الوحدة ، وتحت ضغط الاستقواء بالمفاهيم الجديدة التي يفترض ان (ثوره التغيير) قد أتت بها، وهي حقيقة لم تأت الا بالتضحيات التي فتحت الباب للشق الآخر من النظام لتولي أمر المشهد السياسي وربما لتطوير نموذج جديد من الدكتاتوريات الناشئة والمؤهلة من الناحية السيكولوجية ومن ناحية وضعها السياسي الاجتماعي - القبلي .. ونراها اليوم تقف على ذروة الفعل السياسي خارج أجهزة السلطات الرسمية.
إن مخالب النظام القديم بأكملها ( الجيش ، القبيلة والدين ) تعمل بتلاحم حديدي تجاه قضية الجنوب وتساندها بالطبع شرائح واسعة في المجتمع الشمالي بنوايا ومآرب مختلفة .
وللمشاهد والمهتم بأمر القضية الجنوبية أن يدرك بان هناك أمور متناقضة بل ومتنازعة تعكس ليل ضبابي للمشهد السياسي ترتد عنه البصائر والأبصار ، وهذا أمر ليس عفوي بل هو وسيلة معروفه تماماً يتم من خلالها وضع الجنوب في مهب التجاذبات والضبابية التي تلف مواقف القوى في الشمال ، أي تكريس وسيلة برمجة الضياع وإضعاف الإرادة الجنوبية من خلال المراهنة على الإمعان في تمزيق النسيج السياسي للقوى ، وجعل مسألة الحوار بطبيعتها التي ظهرت عليها مجرد فخ قد يساهم في بناء واقع سياسي جديد تتباعد فيه الكتل الجنوبية وتفسح المجال هنا للاختراقات الكبيرة تتشكل على ضوئها خارطة جديدة للوضع في الجنوب ويتم تفريغ الفعل الجماهيري او بالأصح نقل القوه من الساحات والميادين إلى الكتل وربما إلى طاولات الحوار وهذا أخطر ما يمكن حدوثه .
وبينما هناك اتصالات من اجل الحوار لحل القضية الجنوبية الا انه من الجهة الخلفية يتم وفق شرطية سقف الوحدة كمفهوم مرجعي للطرف الشمالي من زاوية فريضتها الدنيوية والدينية مُقَدَّمه في طبق سياسي جديد ، كما انه لا يتم بين الشمال والجنوب كطرفين ندَّين وإنما بين قوى متعددة داخل دولة واحده وفي إطار الصفة الوطنية للحوار . وهذا بحد ذاته يمثل إجابة صريحة وإستباقيه لكل مطالب الجنوب وهذا ما يجعل الحوار مجرد مقطع تم تحديثه من التراث الطويل .
وحتى الطرف الرسمي والأطراف الحزبية والقبلية لم تُكْرِم الجنوب بأي اعتذار لما لحِقَ به او إي اعتراف بحقوقه وأولها حقه في ان يقول رأيه أو يعلن موقفه من الوحدة كونه كان ولم يزل شريكاً ، وهذا ما يحمل الدلالة القطعية بان مفهوم الوحدة عندهم يترجم إرادة القوه لا غير وليس اختيار طرفين بشكل متكافئ .
إذا كيف يريدون؟
استمرار وحدة مفروضة بالقوة وجعلها كسقف مقدس لا تلامسه الرؤوس ، وان حاولت سيتم قطعها ، كيف يريدون صيانتها وبقاءها في محراب لا يُمَس وفي ذات الوقت يروجون لحوار شفاف ، والعجيب أيضا انه على الجنوب ان يدخل في حوار أعمى ، أي دون معرفة قناعات الأطراف الأخرى ومشاريعهم ومواقفهم ودون وجود مجرد تلميح بان للجنوب حق الاختيار كيفما أراد ، وحتى أن الوضع الذي أفرزته حرب 94 لا يزال قائم ولا يوجد أي مسعى للتغير ولو من باب إظهار حسن النوايا .
حتى مجرد تلميح مُلْتَبَس لا يوجد خاصة من مثلث النظام : العسكري - القبلي - الثيوقراطي , علماً بان الحزبين الرئيسين ( المؤتمر والإصلاح ) هما توأما المنشأ والبيئةٍ الواحدة وطبيعة مراكز القوى المؤثرة بداخلهما، وهما معاً شكلان لتنظيم سياسي واحد وإن اختلفا مرحلياً لكنهما يعبران عن تحالف أوليجاركي بين القيادات السياسية والعسكرية ، والمشائخ ورجال الدين ورجال الأعمال مع تواجد لرموز من شرائح التكنوقراط ومثقفي الأحزاب ويحتكران بالتقاسم غالبية الركائز الشعبية والولاءات المختلفة ، وبالطبع ستظل الدولة المدنية أغنية رومانسيه في حناجر الشباب المنهك من التضحيات والمخترق بسطوة الأحزاب مالياً وإيديولوجيا .
وفي كل هذه الزحمة يجب على الجنوبيين التعامل مع الحوار كي لا (يزعل) المجتمع الدولي او الإقليمي ، خاصة المملكة السعودية التي أُوكِلَ إليها ملف اليمن بما حمل ، والتي غيرت أولوياتها في فرز القضايا داخل البلد الجار، فبينما كانت من اشد خصوم مشروع الوحدة وكذلك من اشد الداعمين للجنوبيين في حرب 94 ومعها كل دول المنطقة (ناقص واحد) ، الا ان التداعيات التي تلتها أثبتت بان المملكة لاتحمل موقف أنساني او تقف إلى جانب الشعوب المستضعفة بشكل ثابت بقدرما تترجم مصلحتها الآنية في مواقف انتقائية وكذلك دول المنطقة ، جيراننا ، والمعصومة تاريخياً وبإرادة دوليه من رياح الثورات والتغيير.
لكن هذا الأمر حتى وان كان مؤثر فلا يجب ان يكون مرجعي يتم على أساسه تعديل الاتجاهات او المسارات التي يجب على الجنوبيين اجتراحها.
الجنوب أعلى من سقف الوحدة لأنه أرض وشعب وتاريخ وهوية بينما الوحدة عملية سياسيه أو وسيلة محدده ولم تكن أكثر من حلم يقظة ما لبث ان أحترق في أول خطوة نحوه وتبخر في الهواء مع الرطوبة والغبار.
إن المسألة البديهية في كل سياسات الدنيا التي يتم تبنيها لتحقيق إي هدف تكمن في : أن أي مشروع إستراتيجي يجب ان يرتكز على ضرورات واقعيه حيث يتم أيضاً خلقها في الوعي الاجتماعي بشكل متين خارج الخُطب المعنوية الفارغة التي لا تحمل ذرة من الحقائق او المستند المعرفي ، ولا تُبْنى الأهداف الكبيرة على أحلام مجرده لا تستند إلى منظومة قيَمٍ داعمة لها لأنها بدون ذلك ستنهار وتحمل معها انهيارات اجتماعيه كبيره .. وهذا بالضبط ما حدث لمشروع الوحدة الذي تم بناءه بشكل رومانسي تحت قمر الظهيرة وعلى شاطئ وردي مالبث ان أكله طوفان الحقائق .
لقد أكدت المجموعة الأوروبية مرارا بان أي تفكير حول أي مشروع فدرالي او حتى ما يشابهه بين أعضائها يجب أن تسبقه مسألة خلق الضرورات والمبررات أولا وان يكون إي مشروع من هذا القبيل مجرد تقنيه وليس حلم سياسي ، وسيلة ناجعة تقود إلى تكامل عقلاني للمصالح المادية والاجتماعية وليس إلى واقع سياسي يقوم على ضياع طرف واستقواء آخر ، فالحلم السياسي الذي يفوق الواقع سيتحول إلى عنوان للانتحار البطيء والتمزق المتوقع والأكثر إيلاما .
وهنا يجب الاستنتاج من معرفتنا بان شعار سقف الوحدة : ما هو الا سقف الوحدة او الموت ، ولو صنعوا له ألحاناً جديدة وأدوات عزف حديثه .
وإنْ قَبِلَ به أيُ طرفٍ جنوبي سينتحر سياسياً دون شك.
إنَّ من يعتقد بأن القيادات الدينية والقبلية في الساحة الشمالية تصنع يمن جديد او تبني دولة حديثه عليه أن يصدق بان الأزمة الاقتصادية هناك سيتم معالجتها بالأعشاب الطبية.