سقوط جدار برلين والتغيرات الاستراتيجية في العالم
احتفلت ألمانيا بالذكرى العشرين لسقوط الجدار الفاصل بين جزأي عاصمتها برلين عام 1989. والطريف أن الروس والفرنسيين والبريطانيين شاركوا الألمان فرحتهم بإعادة توحد مدينتهم ووطنهم إلى جانب الأميركيين بالطبع وبقية الدول الغربية. وقد مثل الروس في الاحتفالات المتجددة الرئيس الحالي ميدفيديف، وآخِر رؤساء الاتحاد السوفياتي عند سقوط الجدار غورباتشوف صاحب شعار الغلاسنوسْت. ومشاركةُ الروس لها دلالاتُها على تحولات المصالح واستمرارها في الوقت نفسه في أوروبا القديمة/ الجديدة. فقد كانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) ضمن الدول الدائرة في فَلَك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو. وكانت الدول المتحالفة في الحرب على النازية والفاشية ومن ضمنها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قد هاجمت ألمانيا الهتلرية من الغرب والشرق في العام 1944، فاحتل الأميركيون والبريطانيون وكتائب فرنسية مناطق ألمانيا الغربية حتى برلين، واحتل الروس السوفيات الأجزاء الشرقية وصولا إلى أحياء برلين الشرقية، وبعض الأجزاء التي تتجاوزها، بحيث تداخلت خطوط الطرفين. وقسم العسكريون الغربيون ألمانيا إلى مناطق عسكرية أدارتْها الدول الثلاث، وضم الفرنسيون إقليمي الإلزاس واللورين؛ في حين قسم الروس الأجزاء التي احتلوها إلى قسمين: قسم ضموه إلى الاتحاد السوفياتي، وقسم وضعوه تحت الإدارة العسكرية السوفياتية، وإدارة الشيوعيين الألمان، ومن ضمنه الجزء الذي وصلت إليه جيوشهم من برلين. ثم إنهم أعطوا البولنديين جزءا كانوا يتنازعون عليه مع ألمانيا من عقود متطاولة. وفي العامين 1946 و1947 دارت مفاوضات معقدة بين الروس من جهة، والعسكريين الغربيين من جهة ثانية من أجل النظر في إعادة توحيد ألمانيا. وما نجحت المفاوضات في المسألة، ليس لأن الروس ما أرادوا إعادة التوحيد وحسب؛ بل ولأن البريطانيين والفرنسيين ما كانوا يريدون عودة ألمانيا الواحدة التي ظلت خصما تاريخيا لهم منذ توحد أجزائها في العام 1870. إذ لا ينبغي أن ننسى أن وحدة ألمانيا التي أعلنت عام 1870 إنما أعلنت من باريس، ومن قصر فرساي بعد احتلالها من جانب الجيش الألماني القيصري. وكانت الولايات المتحدة ترى منذ البداية، أو منذ العام 1947 على الأقل، أن الصراع مع الاتحاد السوفياتي قادم لا محالة؛ ولذلك كانت تأخذ على حلفائها الأوروبيين قِصَرَ نظرهم لهذه الناحية. وصار الأمر واقعا بعد اندلاع الحرب الباردة في النزاع على كوريا (1949 ـ 1953). وهكذا فإن الولايات المتحدة أرغمت حلفاءها في العام 1949 على توحيد الأجزاء الألمانية الواقعة تحت سيطرتهم، وأجرت انتخابات برلمانية في تلك الأجزاء، فانحسرت الإدارات العسكرية، وانتُخب كونراد أديناور مستشارا لألمانيا (الغربية). وسارع الاتحاد السوفياتي إلى إجراء انتخابات مُشابهة في الأجزاء الخاضعة لسيطرته فأُعلن عن قيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وفي حين انطلقت ألمانيا الغربية (التي اتّخذت من مدينة بون الصغيرة على الراين عاصمة مؤقتة لها) في نهوض اقتصادي جبار، بمساعدة الولايات المتحدة؛ فإن هويتها السياسية ظلت مترجرجة حتى نشوب أزمة برلين الخطيرة (1961)، ونشوب أزمة الصواريخ الكوبية (1962). وفي الأزمة الأولى التي منع خلالها الاتحاد السوفياتي وصول القوت والناس إلى برلين الغربية إلا بالطائرات، جاء الرئيس كيندي إلى برلين المحاصرة (بالطائرة طبعا)، وأعلن بألمانية مكسَّرة: أنا برليني، وبرلين حُرة! ودارت مفاوضات معقدة بين العسكريين مرة أُخرى، أدت في الوقت نفسه إلى توقف الحصار على برلين، وبدء بناء الجدار لمنع الألمان الشرقيين من الهرب إلى برلين الغربية وبقية أجزاء ألمانيا، وهو هروب كان قد بدأ في العام 1945 ووصل حجمه إلى عشرة ملايين. والطريف هنا أيضا أن والد المستشارة الألمانية الحالية ميركل ـ وكان قُسا بروتستانتيا ـ غادر في مطلع الخمسينات إلى ألمانيا الشرقية التزاما منه برعيته؛ كما غادر بالطبع عشرات أُلوف الشيوعيين الألمان بعد حظر الحزب الشيوعي بألمانيا الغربية! والملاحظة الأخرى التي يجب ذكرها بسبب دلالاتها البعيدة قيام حلف الأطلسي في مطلع الخمسينات، وقيام حلف وارسو بين دول المعسكر الشيوعي بعد ذلك بقليل.
إن بقية القصة معروفة. فقد استقرت الأوضاع في أوروبا على علاقات القوة تلك، وساد في الستينات والسبعينات عهد «التعايش السلمي» بين الجبارين، إلى أَن ضعُف الاتحاد السوفياتي منذ أواخر السبعينات واتخذت الولايات المتحدة قرارا استراتيجيا بإسقاطه في حملة أخيرة بعد التدخل الروسي في أفغانستان عام 1979، وحدوث التمرد العمالي في بولندا (بزعامة ليخ فاونسا ونقابة التضامن وكان فاونسا الذي صار في التسعينات رئيسا لبولندا بين حضور احتفال ألمانيا بالذكرى العشرين لسقوط الجدار!).
وصل غورباتشوف إلى زعامة الحزب الشيوعي الروسي عام 1985، وصار رجل الاتحاد السوفياتي القوي عام 1986. وقد احتار ماذا يفعل للإبقاء على الاتحاد بعد سريان الضعف فيه بسبب تمرد القوميات في آسيا الوسطى والقوقاز، وسباق التسلح، وتراخي قبضة الحزب، وتخثر البروقراطية، وانتشار الحركات القومية والديموقراطية في دول أوروبا الشرقية. وجاءت سياسة الغلاسنوست (= الانفتاح) لدمقرطة النظام من الداخل، والسماح بفيدرالية واسعة للجمهوريات الدائرة في فلكه. وقد بدا ذلك ممكنا لولا الخلاف القوي داخل نخبة النظام في جمهورية روسيا من جهة، والاندفاعات الديموقراطية في دول أوروبا الشرقية ذات الميراث الأوروبي مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا.. وألمانيا الشرقية. ومرة أُخرى قررت الولايات المتحدة إكمال الإطباق على الكيان الضخم الذي خالطته الهشاشة بعدة طرق: دعم الحركات الديمقراطية في دول أوروبا الشرقية وألمانيا، والضغط العسكري على الجيش الروسي في أفغانستان بحركات التحرير الإسلامية، والتحالف مع الفاتيكان ويوحنا بولس الثاني للاختراق في بولندا (والبابا السابق من أصل بولندي). وتردد الفرنسيون والبريطانيون مرة أُخرى عندما تعلق الأمر بإعادة توحيد ألمانيا. لكن المستشار الألماني هلموت كول تجرأ للمرة الأُولى منذ العام 1945 على المغامرة بتشجيع من الأميركيين أو بدون تشجيع، واندفع بأساليب شتى إلى داخل ألمانيا الشرقية، فهاجت جماهير برلين الشرقية، وتدافعت رغم نيران الشرطة والجيش لتسلق الجدار وعبوره، وتحطيم أجزائه. وحصل ذلك في مثل هذه الأيام منذ عشرين عاما. وأمام الطوفان المتدافع في سائر أجزاء أوروبا الشرقية، وافق غورباتشوف على التفاوض لسحب الجيش الروسي من برلين الشرقية وما حولها ووراءها خلال عشر سنوات في مقابل مادي غير كبير (حوالي العشرين مليار دولار)، ففرض الرئيس بوش الأب على البريطانيين والفرنسيين القبول بإعادة توحيد ألمانيا التي ظلت مقسمة منذ العام 1945.
جاء الرئيس الروسي ميدفيديف إلى برلين (التي عادت عاصمة لألمانيا بعد العام 1995). لكن الرئيس الروسي السابق وضابط المخابرات الروسي السابق بوتين ما جاء، بل تذكر أيامه الجميلة ضابطا في مدينة درسدن التي كانت غارات الطيران الأميركي قد هدمتها عام 1944. وتابع فعزى نفسه عن فقدان ألمانيا بعلاقات الصداقة المتجددة بين الشعبين والدولتين، بعد أن صارت روسيا شريكا تجاريا رئيسيا لألمانيا الموحدة من خلال إمدادات الغاز الهائلة. لكن عندما سقط الجدار عام 1989 ما كان ذلك المستقبل الحاضر واضحا. إذ سقط الاتحاد السوفياتي، وتابعت جمهورية روسيا الاتحادية تراجعها حتى العام 1998. وزاد الطين بِلّة انهيار الخاصرة السُلافية لروسيا بتفكك يوغوسلافيا التي سادت فيها النزاعات ثم الحروب منذ وفاة تيتو أواسط الثمانينات، وحتى استقلال كوسوفو ثم الجبل الأسود (مونتنغرو). لكن الديمقراطية الروسية الجديدة صمدت، ثم بدأ اقتصادها بالتحسن، ثم عادت مفاصل قوتها للتمدد وفرض ضغوط وتحالفات وحتى حروب على جيرانها الجدد وآخِرها الحرب على جورجيا. وفي عهد بوش الابن وبوتين عادت روسيا لتفرض نفسها بالتدريج شريكا للولايات المتحدة، ليس في أوروبا فقط؛ بل في أنحاء أُخرى من العالم أيضا. ويتنافس الأوروبيون؛ وبخاصة الألمان، على خَطْب ود روسيا الجديدة. لكن العهد الإمبراطوري السابق لروسيا في قلب الاتحاد السوفياتي، وقلْب حلف وارسو لن يعود. وهكذا تغير العالم الأول على وقع حدثين كبيرين قيام الاتحاد السوفياتي (1917) ثم انهياره (1990)، وانهيار ألمانيا الموحدة (1945)، ثم قيامتها من جديد (1989). على أن الروس في الحقبة الجديدة يبدون أكثر واقعية من الأميركيين. فقد كابر الأميركيون طويلا، ومن ضمن مكابراتهم توسيع حلف الأطلسي بدلا من إضعافه أو إلغائه. ومن ضمن مكابراتهم تجميد الأوضاع من حول الصين، والإسراع إلى تحالف مع الهند (وحتى في الشأن النووي!). ومن ضمن مكابراتهم أيضا ربط الهيمنة الاقتصادية بالجبروت العسكري. وآخِر تلك المكابرات في منطقتنا الغزوات المعروفة، والتسليم لشارون ببناء «السور الواقي»، في حين كانوا هم بين المسهمين الرئيسيين في إسقاط جدار برلين!