الشابي والرومانسية.. أحلام الفؤاد في مسكن الطبيعة
حسونة المصباحي
قبل الخوض في علاقة الشابي بالرومانسية، يتوجب علينا إبداء بعض الملاحظات العامة بشأن هذه الحركة الأدبية التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في بعض البلدان الأوروبية مثل بريطانيا، وفرنسا، وأسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، والبلدان الاسكندنافية، وازدهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم لم تلبث أن أخذت في الذبول في العقود الأخيرة من القرن المذكور، لتلفظ أنفاسها قبل حلول القرن العشرين.
وتشترك الحركات الرومانسية في البلدان المذكورة في ثورتها على الكلاسيكية في الأدب والفن، وفي رفضها لكل ما يشوه الحياة والوجود، ولكل ما يبيح الظلم والاستعباد، وفي عشقها وتقديسها للطبيعة، وتغنيها بها، وفي تمجيدها للطفولة والبراءة، وفي ميلها إلى لحلم لمواجهة كوابيس الواقع والتاريخ، وفي دفاعها عن القيم الإنسانية النبيلة، وفي بحثها الدائم عن الحب وعن السعادة إذ "حين ينعدم الفرح، لا يكون للوجود الإنساني أي معنى" كما يقول الشاعر الانجليزي ويليام بليك.
ويقول الكاتب الفرنسي جان جيرودو ان اللحظة الرومانسية في بلد من البلدان هي تلك التي يصبح فيها القلب ومشاغله أقوى من كل شيء. أقوى من الأحداث والقضايا السياسية، ومن الحياة الاقتصادية، ومن الأمجاد العسكرية. إنها اللحظة التي يصبح فيها السؤال طاغيا على كل فكرة، والقلق مسيطرا على النفس. وهي تلك التي، بدلا من اللجوء إلى الفلاسفة لتشييد صرح الميتافيزيقا، وإلى مفسرين لشرح القضايا المتعلقة بالدين، وإلى رجال القانون للبت في القضايا العامة، تسعى كل نفس بمفردها إلى معالجة ومواجهة كل هذا، أو تموت، أو تحيا من دون أن يكون لحياتها أي معنى.
ومحاولا تعريف الرومانسية، كتب جان جيرودو يقول: "الرومانسية هي حلولية العصور المتحضرة. كل ألوهية تسلم من قبلها إلى كل مواطن، الذي يصبح في الوقت ذاته الخالق والمخلوق. إنه عصر المرض والاستقامة الأخلاقيين، وعدم الرضا والصفاء الذهني. وهو العصر الوحيد الذي فيه يرتقي دور رجل الأدب إلى مستوى يصبح فيه ضمير عصره". وأما الرومانسي فهو بحسب رأي جان جيرودو ذلك الذي لا تواطؤ له مع كل إنسان، ومع كل مؤسسة إنسانية، والباحث عن هذا التواطئ مع ما تبقى من الطبيعة".
وإن اشتركت في الكثير من الملامح العامة، فإن الحركات الرومانسية في البلدان التي ظهرت فيها تميزت بخصوصيات هي ثمرة الواقع الذي فيه نشأت، والتاريخ الذي فيه تطورت. فبالنسبة للرومانسية الألمانية التي انبثقت كما يقول جان جيرودو من الضباب الذي كان قد غمر أوروبا الوسطى في ذلك الوقت، كان كل واحد من الكتاب والشعراء الرومانسيين يبحث عن خلاصه من خلال شيء معين، وهو متوحد بنفسه في المدينة التي يقيم فيها. فقد كان تاك "TIECK" يبحث عن الضوء، ونوفاليس عن الواقع، وكلايست "KLEIST" عن الشكل، وهوفمان عن الهياكل العظمية، "مغمضا عينيه عن القرن الذي عاش فيه لكي يصل إلى تلك الوجوه أو تلك العظام التي لا يمكن التعرف عليها إلا باللمس أو المداعبة". وأما العصر الرومانسي الإيطالي فإنه كان ذلك العصر الذي ارتفعت فيه الصرخات العالية ضد الاستعباد والعجز، والتي كان قد أطلقها قرنين قبل ذلك، الشعراء الملعونون الذين عاشوا في العصور السعيدة. وفي فرنسا، كان الجيل الرومانسي هو الجيل الذي ولّدته الثورة، وهو الجيل الذي نشأ في فترة "الغموض والارتباك وتذبذب الآراء وشيوع الفوضى". إنهم "أبناء الذين شنقوا أثناء الثورة وليسوا أبناء الجنرالات". وفي بريطانيا، كانت الحركة الرومانسية، حركة إنسانية مناهضة للجوانب المصطنعة في الحضارة الجديدة، وداعية إلى إعادة الاعتبار للحياة ذلك "أن كل ما هو حي مقدس".
وفي كتابه "راسين وشكسبير، كتب ستاندال يقول: "إن الرومانسية هي أن تقدم للشعوب أعمالا أدبية تكون في الوضع الحالي، وفي عاداتها وتقاليدها، قادرة على أن توفر لها أكثر ما يمكن من المتعة".
بعد هذه الملاحظات المكثفة والمختصرة نأتي إلى علاقة الشابي بالرومانسية. وأول شيء يجدر بنا الإشارة إليه هو أن الرومانسية جاءت إلى العالم العربي متأخرة، وتحديدا في تلك الفترة التي أصبحت فيها الرومانسية الأوروبية شيئا من الماضي، وفقدت بالتالي تأثيرها وإشراقاتها، وباتت عرضة للسخرية وللنقد العنيف من قبل مجمل الحركات الحداثية التي تكاثرت كالفطر في القارة العجوز، وقد تم انتشار الرومانسية في العالم العربي عن طريق الترجمة، وعن طريق بعض الأدباء الذين هاجروا إلى أوروبا وإلى امريكا مثل جبران خليل جبران. وكان من الطبيعي أن ينجذب إليها بقوة وحماس كل الشعراء والكتاب الذين ولدوا في أوائل القرن العشرين والذين راحوا يبحثون هنا وهناك عن الوسائل التي تمكنهم من بعث أدب جديد يعكس واقعهم المريض، ويعبر عن أحاسيسهم التي لم تعد تطيق الظلم والتخلف، والاستبداد، والتزمت بجميع أشكاله وألوانه، وتتيح لهم اطلاق صرخاتهم المدوية لايقاظ الضمائر الميتة، واستنهاض شعوبهم المكبلة بقيود الماضي، والتي أضحت عاجزة، وهامدة همود الاموات.
لذلك يمكن القول إن الرومانسية العربية لم تكن رومانسية الشاعر الباحث عن الخلاص الفردي. بل هي رومانسية الغضب والثورة والتطلع إلى فجر جديد وإلى خلاص جماعي. وهذا ما عبّر عنه نزار قباني حين قال:
الشعر ليس حمامات نطيرها نحو السماء ولا نايا وريح صبا
لكنه غضب طالت أظافره ما أجبن الشعر ان لم يركب الغضبا
كما عبّر عن ذلك الشاعر أنسي الحاج حيث كتب يقول: "الشعر هو الثورة الحقيقية ولا ثورة اياه. بالشعر تتغير الحياة نحو الأفضل والأجمل، ولا تتغير هكذا بسواه. الشعر هو نهضة الروح. انه الحياة مضاعفة بما تشتهيه لنفسها من غير حدود". ونحن نعلم أن معرفة الشابي بالرومانسية كانت محدودة للغاية. ولانه كان "يطير بجناح واحد" كما كان يحلو له أن يقول تعبيرا عن جهله بلغة ثانية، فانه كان يلجأ إلى الترجمات القليلة المتوفرة لديه أو لدى أصدقائه، ويطلب العون والمساعدة من صديقه محمد الحليوي الذي كان يتقن اللغة الفرنسية ليتعرف على خصائص الحركات الرومانسية. ومن المؤكد أن كتابات جبران خليل جبران التي كان يحرص على قراءتها بمتعة واعجاب، واتصاله بمجلة "ابولو" ومتابعته للحركة الأدبية في مصر وفي بلاد المشرق عموما، كل هذا ساعده على توسيع معرفته بالرومانسية الاوروبية وخصائصها. وهذا ما يتأكد لنا من خلال رسائله إلى محمد الحليوي، وأيضا من خلال مجمل القصائد الي حفل بها ديوانه الوحيد: "أغاني الحياة".
ورغم محدودية معرفته بالرومانسية، وانعدام اطلاعه على أغلب مؤلفات رموزها الكبيرة بريطانيين كانوا أم فرنسيين أم ايطاليين أم المانيين، فانه نجح في خوض تجربته الرومانسية باقتدار كبير ومن دون تقليد أي أحد كان، ناحتا شخصيته الشعرية بموهبة عالية، وبروح الشاعر المؤمن برسالته التجديدية في مجتمع متخلف، مشدود إلى الماضي، نفور من النظر إلى الأمام، أي إلى المستقبل، ومرتاب من كل ما يمكن أن يحرك السواكن، ويشعل النار في الهشيم، ويحرض على طرح الأسئلة الحارقة، ويبعث الحياة في النفوس الميتة والخامدة. وكان واعيا منذ البداية بأن هذا التجديد لا يمكن أن يتم إلا بلغة نضرة مشرقة تتعارض تمام التعارض مع اللغة القديمة الثقيلة ببلاغتها وبتراكيبها الغليظة وبنفسها البطيء بطء تنفس العجائز وبعجزها عن التعبير عن الواقع وحقائقه. وكان يدرك أن المبدع المجدد الأصيل هو الذي يمتلك "الكرامة والعزة التي تخلق في نفسه العزيمة الاستقلالية المنتجة. تلك النزعة التي تجعله أكثر شعورا بنفسه واعتزازا بها مما عداه. وبذلك تكتسب شخصيته الوضوح والجلاء في آثاره، وتتخذ لها مسلكا خاصا بين المسالك ومذهبا لها بين مذاهب الحياة" "المذكرات".
ومثل كل الشعراء الرومانسيين كان الشابي يرفض الاستسلام الخنوع حتى في أحلك الظروف.
ومتحديا كتب لصديقه محمد الحليوي يقول في رسالة بعث بها إليه في صيف عام 1929: "سأظل سائرا في سبيلي وسأظل ناثرا في هذه الحقول الجرداء العارية بذور الأسى إلى أن يبدو القمر الجميل فتتفتح الأكمام عن ورود جميلة ضاحكة.. ويغرد البلبل من وراء الزهور. سأظل سائرا في سبيلي متغنيا بهذه الأوجاع وهذه الدموع وأن كنت أعلم:
ان الدهور البواكي غنية عن دموعي
وأن قلب الحياة ثخين بالجراح وأن راحة الليل ملأى بالدموع الدامية".
ولعل كتاب "الخيال الشعري عند العرب"، وهو في الأصل محاضرة كان قد ألقاها في "الخلدونية" عام 1929 أي عندما كان في العشرين من عمره، هو الذي يؤكد إلمام الشابي بخصائص الرومانسية في جميع تجلياتها. ففي هذا الكتاب الفريد من نوعه في النقد العربي خلال القرن العشرين، ينتقد صاحب "أغاني الحياة" ضمور الأسطورة والخيال الشعري عند العرب مقارنة باليونانيين القدماء والرومانسيين الأوروبيين. وهو يقول ممجدا آلهة اليونان بعد أن انتقد الخيال الشعري عند العرب الخالي من "فلسفة الحياة" بحسب تعبيره: "وهكذا كانت آلهة اليونان وأساطيرهم: آراء شعرية يتعانق فيها الفكر والخيال. فكل آلهة رمز لفكرة أو عاطفة أو قوة من قوات الوجود، وكل أسطورة شيقة من صور الشعر يقرؤها الباحثون فيحسون أنها صادرة عن مخيلة قوية واحساس فيّاض يشمل العالم ويحس بأدق انباض الحياة".
وفي نفس الكتاب يمجد الشابي حضور الطبيعة في آداب الأمم الأخرى، وبالخصوص عند الرومانسيين الأوروبيين متحسرا على ندرته وانعدامه في آداب العرب وشعرهم. ومستشهدا بفقرتين يتغنى فيهما كل من الالماني غوته والفرنسي لامارتين يخلص الشابي للقول بأن شعراء العربية "لم يعبروا عن الاحساسات الشعرية العميقة" لانهم حسب رأيه "لم ينظروا إلى الطبيعة نظرة الحي الخاشع إلى الحي الجليل وانما كانوا ينظرون إليها نظرتهم إلى رداء منمّق وطراز جميل" ويضيف الشابي قائلا بأن "هذه النظرة الفارغة لا ينتظر منها أن تشرق بالخيال الشعري الجميل لأن الخيال الشعري منشؤه الاحساس الملتهب والشعور العميق".
أما شعراء العربية "فلم يشعروا بتيّار الحياة المتدفق في قلب الطبيعة إلا احساسا بسيطا ساذجا خاليا من يقظة الحس ونشوة الخيال".
ولأنه أدرك القيمة الكبيرة التي تحتلها المرأة في الآداب الرومانسية الأوروبية، والنبل الذي تعامل به كرمز للحب والجمال، فان الشابي يشن هجوما عنيفا على الاحتقار الذي يعامل به العرب المرأة في آدابهم واشعارهم، وعلى تلك النظرة الاستعلائية التي تجعلها مجرد جسد يباع ويشترى لاشباع الرغبات الجنسية عند الرجال. وعن هذه النظرة هو يكتب قائلا: "هذه هي النظرة الشائعة في الأدب العربي كله، والتي يتساوى فيها جميع شعراء العربية على اختلاف عصورهم وتباين طبقاتهم وتفاوت أوساطهم سواء في ذلك عفهم وفاجرهم وأولهم وآخرهم. وقد يكون من الغريب أن بعضا من هؤلاء الشعراء يؤمنون بالحب ايمانا ساميا، ويضمرون عنه في نفوسهم، أبرأ المعاني وأنقاها ماداموا خالين إلى أنفسهم أوالى من يحبون حتى إذا ما أرادوا التحدث عن المرأة لم يتحدثوا عنها إلا بما يتحدث به الفاسق الفاجر من تلك الأوصاف الجسدية السافلة. ولكن لو تعمق الباحث في فهم الروح العربية لعلم ان ذلك ليس من الغرابة في شيء، لأن من طبيعة هذه الروح أن لا تحيط بغير الظاهر المحسوس".
وكان للشابي مواصفات الشاعر الرومانسي بامتياز. فمبكرا أصيب بداء القلب الذي أصاب أغلب الشعراء الرومانسيين الأوروبيين، ومثلهم سوف يموت به وهو في ربيع العمر. وتحت تأثير هذا المرض هو يطلق أحيانا انات موجعة ويعبر في العديد من قصائده عن احساسه بالموت المبكر، وعن عذاباته وآلامه الداخلية، وعن تلك الأوجاع التي تجعله أحيانا ضيقا بالحياة وغريبا بين الناس. وفي قصيدة "الأشواق التائهة" هو يقول:
يا صميم الحياة! كم أنا في الدنيا غريب! أشقى بغربة نفسي
بين قوم لا يفهمون أناشيد فؤادي ولا معاني بؤسي
وحده الشعر يعيد للشابي حبه للحياة، ويبعد عنه الهواجس والمخاوف السوداء وينزع عن روحه الاحساس المر بالغربة والوحدة. وفي قصيدته "قلت للشعر" هو يقول:
انت يا شعر فلذة من فؤادي تتغنى وقطعة من وجودي
فيك ما في جوانحي من حنين ابدي إلى صميم الوجود
فيك ما في خاطري من بكاء فيك ما في عواطفي من نشيد
فيك ما في مشاعري من وجوم لا يغني ومن سرور عهيد
فيك ما في عوالمي من ظلام سرمدي ومن صباح وليد
وبحكم عمل والده الذي كان قاضيا تنقل الشابي كثيرا بين مختلف مناطق البلاد في سنوات طفولته ومراهقته فأحب الطبيعة وفتن بجمالها، وعشق الجبال والغابات وطبرقة وعين دراهم وواحات توزر حيث نشأ وترعرع. وعندما كان طالبا في جامع الزيتونة، كانت أجمل الأوقات بالنسبة إليه تلك التي كان يقضيها في "حديقة البلفدير" متصفحا كتابا، أو جالسا في ظلال الأشجار مستمعا إلى أغاني الطيور ومسترقا النظر إلى الحسناوات وهن يتبخترن في ممرات الحديقة. ويحفل ديوان "أغاني الحياة" بقصائد يتغنى فيها بجمال الطبيعة، وبالنور وبالجمال في أبهى تجلياته ومعانيه، فالطبيعة عند الشابي كما هو الحال عند الرومانسيين هي "الوطن الروحي" للشاعر المتوحد بنفسه، الهارب من الزيف ومن القبح ومن الشرور. وهي ملاذه الأوحد عندما تضيق به الحياة، وتتشابك السبل وينطفئ نور الأمل. وفي قصيدة "مناجاة عصفور" يقول الشابي:
يا أيها الشادي المغرد ههنا ثملا بغبطة قلبه المسرور!
قبّل أزاهير الربيع وغنّها رنم الصباح الضاحك المحبور
واشرب من النبع الجميل الملتوي ما بين روح صنوبر وغدير
واترك دموع الفجر في أوراقها حتى ترشفها عروس النور
ومعبرا عن المكانة السامية التي تحتلها الطبيعة في قلبه ووجدانه، كتب الشابي لصديقه محمد الحليوي يقول "رسالة بتاريخ 10 افريل 1932": "وماذا بعد هذا؟ بعده انني الآن في عزلة محببة إلى نفسي في الصحراء أو تحت ظلال النخيل وليس معنى هذا انني هجرت المدينة وفررت بنفسي إلى أحضان الطبيعة التي أجد فيها من معاني الجمال والعطف والحنان ما لا أجد في قلوب البشر الذين مللتهم ومللت أحلامهم الصغيرة وأحاديثهم السخيفة وضحكاتهم التافهة وان كانت مخضوبة بالدموع".
وعالما بروح الشابي الرومانسية العاشقة للطبيعة، يرد عليه محمد الحليوي قائلا "رسالة بتاريخ 13 افريل 1932": "هنيئا لك عزلتك، هنيئا لك انفرادك في الصحراء حيث تمتلئ النفس بعظمة الكون وتتملأ العين من روعته وجماله وتتسع آفاق الحياة في جوانب القلب البشري "..." هنالك في الصحراء ينسى المتأمل نفسه وشخصه ويتجرد من قيوده المادية ليصبح "فكرة" هائمة في ذلك الوجود الكبير وذرة من الذرات المكونة لهذا "الكل" الشامل، هنالك تحس الروح السابحة في الملكوت الأعلى بصلة القرابة، ومتين النسب بينها وبين ذلك الأثير السابح في الفضاء وذلك النور المبثوث في عوالم الضياء وذلك النجم المتألق في أجواز السماء، وفي تلك الظلمة الطخياء والليلة القمراء والرمال الصفراء وفي كل شيء من الوجود ومن الوجود".
وأحيانا، حين يشتد يأسه من شعب راض بالمذلة والخنوع يهدد الشابي بالهروب إلى الطبيعة وينشد قائلا:
إنني ذاهب إلى الغاب يا شعبي لأقضي الحياة وحدي بيأس
انني ذاهب إلى الغاب عليّ في صميم الغابات أدفن بؤسي
ثم أنساك ما استطعت فما أنت بأهل لخمرتي ولكأسي
سوف أتلو على الطيور أناشيدي وأفضي لها بأشواق نفسي
فهي تدري معنى الحياة وتدري أن مجد النفوس يقظة حس.
ويحدث ان يحلم الشابي أحيانا، بان يكون سيولا وعواصف هوجاء وأعاصير لكي يحطم ويدمر كل ما يحجب النور، ويمنع الزهور من التفتح والفجر من الظهور، ويبقى شعبه مقيدا مكبلا بقيود الماضي والحاضر.
ولا يختلف الشابي عن الشعراء الرومانسيين في نظرتهم للمرأة باعتبارها رمزا للنبل والجمال والحب. لذا هي تحضر بقوة تماما مثل الطبيعة في مجمل قصائد ديوان "أغاني الحياة". وفي قصيدة "صلوات في هيكل الحب"، يقول الشابي مخاطبا المرأة:
عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد
يا لها من وداعة وجمال وشباب منعّم املود!
يا لها من طهارة تبعث التقديـ س في مهجة الشقي العنيد!
يا لها من رفة يكاد يرف الور د منها في الصخرة الجلمود!
ثم يضيف الشابي قائلا:
يا ابنة النور، إنني أنا وحدي من رأى فيك روعة المعبود
فدعيني أعيش في ظلك العذب وفي قرب حسنك المشهود
عيشة للجمال والفن والالهام والطهر والسنى والسجود
عيشة البتول يناجي الرب في نشوة الذهول الشديد
وامنحيني السلام والفرح الروحي يا ضوء فجري المنشود
ومثل الشعراء الرومانسيين، كان الشابي رافضا للطغيان والظلم، محرضا على التمرد والثورة، داعيا إلى مقاومة التخلف والتحجر والتزمت، ممجدا الحرية والانعتاق، مناصرا للمصلحين والزعماء الذين يقودون المعارك الضارية من أجل مستقبل مشرف لشعوبهم. فالشاعر عند الشابي هو ذلك الذي يسعى من خلال أفعاله وكلماته إلى أن يوقظ الهمم، ويرشد إلى النور، ويعيد الاعتبار للقيم الانسانية النبيلة المهددة بالاندثار والذبول. ولذلك هو لا يتردد في مهاجمة الشعب المشدود إلى امجاد الماضي والقابل بمظالم الحاضر. وفي ذلك هو يقول:
والشقي الشقي في الأرض شعب يومه ميت وماضيه حي.
ختاما نقول بأن تأثير الرومانسيين الأوروبيين الكبار من أمثال لامرتين والفريد دوفييني وبيرون وشيلي على الشابي كان كبيرا وحاسما. ورغم أنه لم يقرأ أعمال هؤلاء في مجملها بل بعض المقتطفات منها، والمنقولة إلى العربية في ترجمات سيئة غالب الأحيان فانه حدس مكونات الرومانسية وخصائصها ورؤيتها للأدب والفن والحياة بصفة عامة. لذلك كان الشاعر المجدد الأول بامتياز في تونس.. الشاعر الذي أخرج الشعر من السرداب المعتم الذي كان محبوسا فيه وحرره من القوالب الجامدة وبسطه أمام نور الحياة، مضمخا بعطر الطبيعة، وساطعا بجمال المرأة ومسكونا بالثورة وبحب الحرية والانعتاق.