نبأ نيوز- جنيف/ فواز الرصاص - لا يختلف إثنان على الأهمية الكبيرة والإستثنائية التي تحتلها وسائل الإعلام والإتصال وتقنية المعلومات في التاريخ المعاصر والتي بفضلها تحول العالم الكبير إلى قرية كونية صغيرة يمكن لأي شخص في طرفها الأيسر متابعة مايحدث في طرفها الأيمن مباشرة وبالصوت والصورة. ونظراً لإدراك الدول الكبرى لأهمية وسائل الإعلام والإتصال بكافة أوجهها فقد تفننت تلك الدول في إمتلاك تلك الوسائل وإستخدامها من أجل تحقيق الهدف منها بصرف النظر عن نوعه أو مشروعيته.
ومع نهاية عقد الثمانينات وبداية عقد التسعينات بدأ عهد جديد للعلاقات الدولية تمثل بسقوط نظام الرئيس الروماني تشاوسيسكو وهدم جدار برلين وإحتلال صدام للكويت وإنهيار الإتحاد السوفياتي السابق ومع تباشير هذا العهد ظهرت الأهمية الإستثنائية لوسائل الإعلام والإتصال وبالذات مع بداية عملية عاصفة الصحراء التي هدفت – من ضمن ما هدفت إليه – إلى إخراج الجيش العراقي من الكويت وقد أشيع أن وزير خارجية الولايات المتحدة حينها جايمس بيكر كان في رحلة جوية عند إحتلال القوات العراقية للكويت فجر الثاني من أغسطس 1990م وعند نزوله من سلم الطائرة سأله الصحفيين : مارأيك بالغزو؟ وكان رده أي غزو؟ فقال الصحفيين غزو العراق للكويت وساعتها أجاب غاضباً ليس لدي تعليق وصب جام غضبه بعدها على مساعديه الذين لم يتمكنوا من الحصول على هذه المعلومة في وقتها.
وقد تميزت عاصفة الصحراء بسيطرة إعلامية مطلقة لقوات التحالف التي إمتلكت ناصية الحرب الإعلامية وكانت المصدر الوحيد– تقريباً– لمجريات وأحداث المعركة وظهرت خلالها بشكل خاص شبكة (CNN) الإخبارية الأمريكية المملوكة لليهودي تيد تورنر كمصدر رئسي وهام ويعتد به للحصول على الأخبار العاجلة والمباشرة، ومع بروز هذه الشبكة وسيطرتها الإعلامية على مصادر الأخبار برزت الحاجة إلى قناة فضائية عربية تكون منافسة لها وقادرة على نقل الحقائق - بكل تجرد ومهنية لكل العالم- عن العالم العربي وإليه وكان أن ظهرت قناة الجزيرة في شهر نوفمبر من عام 1996م.
ولمعرفة أهداف ومآرب قناة الجزيرة يتوجب علينا معرفة الخلفية التاريخية لها وكيفية إنطلاقها. والثابت أن قناة الجزيرة تأسست بناءاً على توجيهات أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني الذي تولى حكم قطر بعد أن قام بإنقلاب على والده بتاريخ 27 يونيو 1995م وقد قامت القناة أصلاً على أنقاض قناة (BBC) البريطانية، حيث تم تجميع مذيعيها الذين وجدوا أنفسهم فجأة بدون عمل وتم تشكيل لجنة من بينهم لدراسة كيفية البدء بنشاط القناة لتسير على النهج الذي إختطته قناة (BBC) البريطانية.
مما يحسب لأمير قطر الحالي أنه رجل طموح يريد تجاوز المهانة والمذلة التي يشعر بها القطريين عند الحديث عن مساحة قطر وخاصة عند مقارنتها بالسعودية- التي تعد المنفذ البري لقطر وعقدتها التاريخية والجغرافية- أو اليمن وكذلك سكان قطر البالغ عددهم حوالي 700 ألف نسمة ربعهم من أصول فارسية وثلثهم من جنوب شرق آسيا بينما البقية عرب ونصف هولاء العرب هم القطريين الأصليين. ولتجاوز هذه المهانة التاريخية كان لابد للأمير الشاب الطامح أن يبحث عن وسيلة يستطيع من خلالها لفت أنظار العالم لقطر وكان لابد لهذه الوسيلة أن تمكنه من تجاوز النقاط التي وضعها علماء السياسة والإجتماع كمحددات لأي دولة كي تتمكن من لعب دور إقليمي أو دولي وكانت قناة الجزيرة واحدة من مجموعة وسائل إعتمدها الأمير الشاب لتنفيذ مخططه الطموح والمشروع لإظهار قطر على خارطة الأحداث السياسية والإقتصادية العالمية.
ولذلك بدأت حكومة قطر تنفيذ خطط الأمير الطموحة ولأن العصر هو عصر تقنية المعلومات كان لا بد من أداة إعلامية متطورة ذات موارد كبيرة وبرامج إقتصادية وثقافية وإجتماعية ثرية بالمعرفة والأهم من هذا وذاك برامج سياسية جريئة سواءاً كانت وثائقية أو مباشرة حوارية أو تفاعلية وتوجب على تلك البرامج بالضرورة أن تنتقد الأنظمة الحاكمة وبالذات في الدول العربية وعلى وجه الخصوص الدول العربية الكبيرة كي تظهر بمظهر القناة ذات المصداقية والإستقلالية.
وبالفعل قامت القناة– التي يرأس مجلس إدارتها بن عم أمير قطر– بتقديم برامج رائعة ومفيدة جداً في المجال الديني والثقافي والإقتصادي والإجتماعي وحتى في المجال السياسي، إلا أنها قامت وعن عمد ومع سبق الإصرار والترصد بمهاجمة الدول العربية بدءاً بمصر وسوريا ومروراً بالمملكة العربية السعودية وتونس وليس إنتهاءاً بالمملكة الأردنية الهاشمية واليمن إلى درجة جعلت سفير دولة عربية مغاربية معتمد في قطر يصف نفسه بأنه أصبح سفيراً لبلاده لدى قناة الجزيرة وليس لدى الدوحة.
لقد كانت الحجة الوحيدة التي تسوقها إدارة القناة– وما تزال- لأي محتج أو معترض على أدائها هو أنها تعمل بمهنية ومصداقية كما أن حكومة قطر - التي تلقت الكثير من الشكاوى من عدد من الدول والتي وصلت بعضها إلى حد التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين قطر وهذه الدول – كانت دائماً ما تقول أن القناة مستقلة وأنها لا تملك إمكانية الضغط عليها أو التأثير على أدائها وهو الأمر الذي ثبت عدم صحته عندما مارست السعودية ضغوطاً شديدة على قطر وصلت إلى حد القطيعة السياسية بينهما الأمر الذي جعل حكومة قطر تتدخل لتعديل بوصلة القناة في أي إتجاه أخر غير المسار السعودي وحينها كان لا بد للقناة أن تبحث عن هدف أخر كي تثبت مصداقيتها المهزوزة وبالذات بعد نفاذ كل الأوراق التي هاجمت بها مصر وتونس والأردن وغيرها من الدول ومع عدم قدرتها على مهاجمة السعودية مجدداً ولذا لم تجد أمامها سوى اليمن.
عندما إختارت قناة الجزيرة مهاجمة اليمن لم يأتي هذا القرار من فراغ أو من باب التغطية الإخبارية المهنية وإنما كان هناك عدة عوامل جعلت القناة تقرر هذا الأمر وأولها الإنتقام من حكومة اليمن بسبب عدم مشاركتها في قمة الدوحة التي كانت هي أصلاً صاحبة الدعوة لعقدها وثانياً خروج الرئيس علي عبد الله صالح بتصريح قوي لوسيلة إعلام سعودية قال فيه أن قبول اليمن للوساطة القطرية لوضع نهاية للتمرد الحوثي كان خطأً لن يتكرر وأنها – أي الوساطة– منحت عصابات الحوثيين شرعية لاتمتلكها في الأصل والسبب الثالث أن قطر تعد واحدة من الدول المانحة لليمن ولذلك لن تجازف الحكومة اليمنية بإنتقاد القناة مراعاة للحكومة القطرية وأيضاً بسبب حاجتها الملحة لكل دولار واحد من قبل المانحين وبالذات مع المشكلة الإقتصادية الكبيرة التي تمر بها اليمن علاوة على ذلك فاليمن هي صاحبة أكبر تجمع بشري في الجزيرة العربية وصاحبة ثاني أكبر مساحة فيها إضافة إلى وجود بعض القلاقل الأمنية مما يجعلها هدفاً مغرياً لقناة مثل الجزيرة.
وبناءاً عليه فقد شرعت القناة في تضخيم المشاكل الأمنية التي تمر بها البلد إلى حد إختلاق الأكاذيب وفبركة بعض الرويات غير الصحيحة بشكل جعل العالم يعتقد أن اليمن بأكملها تمر بحرب شوارع وأن القتل موجود على مدار الثانية والدقيقة في كل أرجاء البلد وأن الصومال أفضل حالاً أمنياً من اليمن، كما قام مراسلوا القناة في اليمن– للأسف– بأدوار مشبوهة وبعضهم بأدوار حقيرة بغرض تصفية حساباتهم مع النظام دون أن يفرقوا بين النظام والوطن وبالذات مراسلي الجزيرة نت كما قامت القناة بحجب تعليقات القراء الداعمة للوحدة ولم تسمح سوى بنشر التعليقات المغرضة والأسوأ من هذا كله أن تصل بذاءة مذيعي هذه القناة إلى درجة أن يقوم فيصل القاسم المعروف بوقاحته وسلاطة لسانه بالتهكم على الرئيس علي عبد الله صالح بأسلوب ساخر وعلى الهواء مباشرة - وهو رئيس دولة منتخب وصل للكرسي بالإنتخابات وليس الإنقلابات بغض النظر إتفقنا معه أم إختلفنا- كما إتهم القوات الحكومية بإستخدام الفوسفور الأبيض في عملياتها ضد عصابات التمرد الحوثية وكل هذا بهدف إسترجاع أمجاد الجزيرة الغابرة التي إستولت عليها قنوات فضائية أخرى عُرفت بحياديتها عند تغطيتها للأحداث السياسية الساخنة.
لعل واحدة من أكبر وأخطر علامات الإستفهام التي أثيرت حول هذه القناة هو تلك التي أثارها عدد من المحللين الذين ربطوا بين إغتيال عدد من الزعماء والمجاهدين وبين قيامهم بعقد لقاءات تلفزيونية مع عدد من طواقم قناة الجزيرة وهو بالضبط ماحدث لرمزي بن الشيبة وخالد شيخ محمد العقلين المدبرين لهجمات 11 سبتمبر بعد لقائهم الصحفي المصري يسري فودة وتسجيله لقاء معهما لبرنامج "سري للغاية" التي تنتجه الجزيرة وأيضاً إغتيال عبد العزيز الرنتيسي قائد حركة حماس الذي إغتيل مباشرة بعد لقاء عقده مع مراسل قناة الجزيرة وقبله يحيى عياش أحد القادة العسكريين لحماس ومثله سعيد صيام وزير داخلية حركة حماس وأيضاً عملية إغتيال محمود المبحوح الذي لم يكن أحداً يعرف ملامحه حتى الكثير من قيادات حماس ولم يتم التعرف عليه إلا بعد لقاء مطول عقده مع قناة الجزيرة التي ألحت عليه من أجل عقده وإشترطت أن يظهر بوجهه مكشوفاً من دون قناع كما هي عادته كما طلبت منه أن يحكي وبالتفصيل الممل كيفية قيامه بإغتيال جنديين إسرائيليين في وقت سابق ولولا هذا اللقاء ماتمكنت إسرائيل من إغتيال المبحوح في دبي وأخيراً وليس أخراً عملية إلقاء القبض على عبد الملك ريغي زعيم جماعة جند الله المناوئة للنظام الفارسي الإيراني والتي تطالب بالعدل والمساواة لسنة إيران وهو الأخر قبض عليه بعد لقاء مع الجزيرة.
وعلى الرغم من كل ما سبق إلا أن مايثير العجب أن هذه القناة وفي سياق بحثها المحموم عن الخبر - سواءاً كان قديماً أم جديداً بغرض تحقيق سبق صحفي - فاتها أن تغطي الزيارات المتكررة للرئيس الإسرائيلي ولأعضاء حكومته للدوحة وقيامهم بالتجول والتبضع في أسواقها التي لا تبعد إلا أمتار قليلة عن مقر القناة ، كما أن هذه القناة التي إشتهرت بقدرتها على الحصول على أشرطة نادرة للقاءات سرية مختلفة لم تتمكن من الحصول على الشريط الذي بثته القناة العاشرة الإسرائيلية والذي يصور اللقاء السري الذي عقده أمير قطر ووزير خارجيته المحنك مع وزيرة خارجية إسرائيل السابقة تسيبي ليفني أثناء الحرب الظالمة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة بداية العام الماضي.
وهنا أود التنويه أنه من حق قطر– وأي دولة أخرى- أن تقيم علاقات سرية وعلنية مع إسرائيل أو مع أي دولة أخرى في العالم ومن حقها أيضاً أن تُدير قناتها بالشكل الذي تريده لكن بالتأكيد ليس من حقها أن تجعل من هذه القناة– ولا من حق القناة نفسها أن تتحول إلى- منصة لمهاجمة الشعوب العربية وأنظمتها وثوابتها والإستهزاء بقياداتها بحجة الإستقلالية والمهنية والمصداقية التي تجعلها ترى كل مايدور في العالم لكنها تعمى عن رؤية ما يدور على بعد أمتار منها ومع ذلك وعلى الرغم من تفاهة إدارة الجزيرة ووقاحة مذيعيها ومحاولتهم تشويه صور ومواقف الدول العربية وشعوبها- ومن ضمنها بلادنا- كي يثبتوا لأنفسهم مصداقيتهم العرجاء وإستقلاليتهم الناقصة التي يتغنون بها إلا أنني مع ذلك لا أُحبذ إغلاق مكاتب الجزيرة في اليمن أو في أي دولة أخرى وإنما أفضل أن يتجاهلها الناس وأن يتعاملوا معها بالضبط كما يتعاملون مع قناة الصرف الصحي "البالوعة"– صانكم الله وعز قدركم- التي عندما تطفح وتخرج قذارتها يقوم الناس بدفنها بدل نبشها وختاماً يقول المثل "القافلة تسير والكلاب تنبح "..
|