عبد الباري عطوان
عدت لتوي من منطقة الخليج، حيث لبّيت دعوة من ناشر كتبي للمشاركة في معرض ابوظبي للكتاب بالقاء محاضرة، وتوقيع نسخ للمهتمين بشرائها، وما أثار اهتمامي هو انشغال اهل المنطقة، من مواطنين ومقيمين (العرب منهم طبعا) بقضيتين اساسيتين:
' الاولى: تتعلق بتطورات جريمة اغتيال الشهيد المبحوح في امارة دبي في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، على ايدي 'كتيبة' من رجال الموساد الاسرائيلي دخلوا البلاد بجوازات سفر اوروبية واسترالية مزورة.
' الثانية: احتمالات اندلاع المواجهة مع ايران، بشقيها الاقتصادي (الحصار) او العسكري (هجمات جوية مباشرة، وانعكاساتها على دول الخليج وامنها ومستقبلها.
بالنسبة الى القضية الاولى يلمس المرء انقساما في الآراء حول دور الفريق ضاحي خلفان تميم في تعقب الارهابيين المتورطين، من خلال اداء امني متميز، مصحوبا بشفافية اعلامية غير مسبوقة في منطقة الخليج، بل والمنطقة العربية بأسرها.
هناك توجه يتنامى حاليا في اوساط مسؤولين خليجيين ينتقد 'اندفاع' امارة دبي في التصدي بشجاعة للموساد الاسرائيلي، والذهاب بهذه القضية حتى شوطها الاخير، ويدعي هؤلاء الخوف على امارة دبي، والحرص على امنها واستقرارها، تحت ذريعة انها 'اصغر' من ان تتورط في مواجهة مع اسرائيل، وكان عليها ان تتعظ من دول عربية كبرى مثل سورية التي تكتمت على موضوع اغتيال الشهيد عماد مغنية على ارضها، ومسؤولين سوريين آخرين.
في المقابل، تحوّل الفريق تميم الى بطل شعبي، ليس في دولة الامارات، وانما في الوطن العربي بأسره، لانه اظهر كفاءة امنية عالية في كشف هويات المتورطين في الجريمة، والحق ضررا كبيرا باسرائيل في اوساط حلفائها الغربيين عندما اصر على كشف استخدامهم لجوازات اوروبية 'مزورة'، واستخدامهم بطاقات اعتماد مالية من مصارف امريكية، ووجه الاتهام دون تردد للموساد، وطالب بتحميل المسؤولية مباشرة الى بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي صادق على العملية وايّد تنفيذها.
الاتجاه الاول يمثل الاقلية التي تعودت على 'التعتيم' وكنس المشاكل الامنية بل والسياسية تحت السجادة، والابتعاد عن القضية العربية المركزية تحت حجج وذرائع عديدة، منها ميل دول الخليج الى السلام والمهادنة وتجنب المواجهات، وتضخيم الخطر الايراني باعتبار مواجهته اولوية ملحة تتقدم على مواجهة الخطر الاسرائيلي، بسبب تعاظم الطموحات النووية الايرانية واخطارها على دول الجوار.
اما الاتجاه الثاني فيمثل الاغلبية الكبرى التي ما زالت ترتب اولوياتها السياسية والعسكرية وفق الثوابت العربية والاسلامية، وترى ان اتباع مؤشر البوصلة الامريكية ـ الاسرائيلية من قبل ما يسمى بمحور الاعتدال، هو الذي اوصل المنطقة الى حال الهوان الراهنة، واختفاء المشروع النهضوي العربي، وتفجير الحروب في المنطقة، مما ادى الى اختلال التوازن الاستراتيجي لصالح دول غير عربية مثل ايران، وبطبيعة الحال اسرائيل.
' ' '
الحديث عن احتــــمالات الحرب في المنطقـــة هــــو العمــــود الفقري في معــظم اللقاءات والدواوين الخارجية، والسؤال الذي يتردد بقـــوة هو ليس حول ما اذا كانت المواجهة العسكرية ستندلع ام لا، وانما حول زمانها والاطراف
المشاركة فيها. فمياه الخليج تزدحم بالبوارج الحربية الامريكية، وهناك من يؤكد وجود غواصات نووية اسرائيلية ايضاً، والمسؤولون الامريكيون يتقاطرون على المنطقة، عسكريين كانوا او سياسيين، فبعد جولة كل من الجنرال مايكل مولين رئيس هيئة اركان الجيوش الامريكية، والجنرال ستانلي ماكريستال قائد قوات الناتو في افغانستان، في المنطقة، حطّ بالرياض يوم امس روبرت غيتس وزير الدفاع الامريكي، بينما زار جوزيف بايدن نائب الرئيس الامريكي تل ابيب حيث تعهد اثناء زيارته بمنع ايران من امتلاك اسلحة نووية.
هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة للتعاطي مع ايران وبرامجها النووية يتركز الحديث حولها في المنطقة:
' السيناريو الأول: ان تقوم اسرائيل بهجوم مباغت على 'اذرعة' ايران العسكرية في المنطقة اي 'حزب الله' في جنوب لبنان، وحماس في قطاع غزة، وبما يؤدي الى انهاء 'دولتيهما' وتدمير قدراتهما العسكرية، وعلى امل ان يتم جرّ ايران وسورية الى حرب اقليمية لانقاذ حلفائهما، لان حجم النيران المستخدمة سيكون كبيراً جداً.
السيناريو الثاني: ان تشن اسرائيل غارة خاطفة ومحدودة، ولمرة واحدة على التجهيزات النووية الايرانية، وفي هذه الحالة قد تمتص ايران هذه الضربة لتظهر امام العالم كدولة معتدى عليها من قبل اسرائيل الدولة المعتدية، التي تهدد امن المنطقة واستقرارها.
السيناريو الثالث: اقدام اسرائيل والولايات المتحدة معاً على شن حرب شاملة ضد ايران، من خلال قصف متواصل لأسابيع او حتى اشهر، لتدمير بناها التحتية بالكامل، وفي هذه الحالة سلتجأ ايران الى الرد باطلاق صواريخها باتجاه اسرائيل والقواعد الامريكية في منطقة الخليج، وسيكون الحال كذلك بالنسبة الى حلفائها في دمشق ولبنان وقطاع غزة، فقد تحدثت تقارير غربية عن ان 'مجلس الحرب' الذي التأم في دمشق بمشاركة كل من الرئيس الايراني احمدي نجاد، والسوري بشار الاسد، وزعيم حزب الله السيد حسن نصر الله، قد درس جميع الاحتمالات والسيناريوهات، ووضع الخطط لمواجهتها، والاتفاق على استراتيجية موحدة، باعتبار الحرب المقبلة هي 'ام الحروب'.
' ' '
المسؤولون الخليجيون لا يريدون اياً من السيناريوهات الثلاثة، ويخشون من سيناريو رابع تراجعت احتمالاته مؤخراً، وهو توصل الولايات المتحدة وايران الى صفقة اقتسام نفوذ تأتي على حسابهم. بمعنى آخر يعتبرون انفسهم من المتضررين الاساسيين من اندلاع الحرب الباردة (حصار اقتصادي)، او الساخنة (مواجهات عسكرية)، ولتبديد هذه المخاوف تعزز امريكا من كثافة وجودها العسكري في المنطقة (اساطيل وبوارج)، وتنصب شبكات صواريخ متقدمة (السعودية اشترت شبكة صاروخية دفاعية بحوالى 3.3 مليار دولار العام الماضي).
اللافت ان هذه المخاوف غير ملموسة على الارض، فحركة البناء، وصعود الابراج الى عنان السماء، والتنافس في الرفاهية والبذخ، يراها الزائر في كل مكان يذهب اليه في دبي وابوظبي، وكأن المواجهات في حال اشتعال جبهاتها ستقع في كوكب آخر من العالم.
ما هو فوق سطح الخليج مختلف عما هو تحته، والصور البراقة تكون مخادعة، فلا نستطيع ان نتحدث عن خليج واحد موحد، فهناك خلافات متفاقمة بين بعض اعضائه، بعضها حدودي، وبعضها الآخر نابع من الغيرة والتنافس، ولكن نقطة الاتفاق الاكبر التي توحد الجميع ليس الهوية او الخصوصية المشتركة، وانما الاعتماد على الحماية الامريكية، ومساندة اي مخطط يمكن ان تتبناه واشنطن في المنطقة.