تفسير آية الاعتصام لإبن كثير:
قال تعالى)وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
التفسير قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي , عن مرة , عن عبد الله هو ابن مسعود "اتقوا الله حق تقاته" قال: أن يطاع فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر, وهذا إسناد صحيح موقوف, وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود , وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب , عن سفيان الثوري , عن زبيد , عن مرة , عن عبد الله , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله حق تقاته": أن يطاع فلا يعصى, ويشكر فلا يكفر, ويذكر فلا ينسى " , وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد , عن مرة , عن ابن مسعود مرفوعاً, فذكره, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, كذا قال, والأظهر أنه موقوف, والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم : وروي نحوه عن مرة الهمداني والربيع بن خثيم وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وطاوس والحسن وقتادة وأبي سنان والسدي , نحو ذلك. وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية , والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الاية منسوخة بقوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "اتقوا الله حق تقاته" قال: لم تنسخ, ولكن "حق تقاته" أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم, ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقوله تعالى: "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه, فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه, ومن مات على شيء بعث عليه, فعياذاً با لله من خلاف ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا روح , حدثنا شعبة , قال: سمعت سليمان عن مجاهد : أن الناس كانوا يطوفون بالبيت و ابن عباس جالس معه محجن, فقال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون", ولو أن قطرة من الزقوم قطرت لأمرت على أهل الأرض عيشتهم, فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم ؟" وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه من طرق عن شعبة به وقال الترمذي : حسن صحيح, وقال الحاكم : على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع , حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب , عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة , عن عبد الله بن عمرو , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن با لله واليوم الاخر, ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن أبي سفيان , عن جابر , قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن با لله عز وجل" ورواه مسلم من طريق الأعمش به. وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى , حدثنا ابن لهيعة , حدثنا أبو يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه " قال إن الله قال: أنا عند ظن عبدي بي, فإن ظن بي خيراً فله, وإن ظن شراً فله", وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي " .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الملك القرشي , حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت وأحسبه عن أنس , قال: " كان رجل من الأنصار مريضاً, فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده, فوافقه في السوق فسلم عليه, فقال له :كيف أنت يا فلان ؟ قال: بخير يا رسول الله, أرجو الله وأخاف ذنوبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف", ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان , وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديثه, ثم قال الترمذي : غريب, وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلاً, فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن أبي بشر , عن يوسف بن ماهك , عن حكيم بن حزام , قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أخر إلا قائماً , ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة به, وترجم عليه فقال (باب كيف يخر للسجود), ثم ساقه مثله فقيل: معناه أن لا أموت إلا مسلماً, وقيل: معناه أن لا أقتل إلا مقبلاً غير مدبر وهو يرجع إلى الأول.
وقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" قيل "بحبل الله" أي بعهد الله, كما قال في الاية بعدها " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " أي بعهد وذمة, وقيل "بحبل من الله" يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم .
وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى, فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي , حدثنا أسباط بن محمد عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطية , عن أبي سعيد , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض".
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص , عن عبد الله رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل الله المتين, وهو النور المبين, وهو الشفاء النافع, عصمة لمن تمسك به, ونجاة لمن اتبعه", وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك. وقال وكيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين. يا عبد الله هذا الطريق, هلم إلى الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن.
وقوله: " ولا تفرقوا " أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة, وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق, والأمر بالاجتماع والائتلاف, كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح , عن أبيه , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله يرضى لكم ثلاثاً, ويسخط لكم ثلاثاً, يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم, ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال" وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ, كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً, وخيف عليهم الافتراق والاختلاف, وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة, منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار, وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً" إلى آخر الاية, وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج, فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية, وعدواة شديدة وضغائن وإحن وذحول, طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم, فلما جاء الله بالإسلام, فدخل فيه من دخل منهم, صاروا إخواناً متحابين بجلال الله, متواصلين في ذات الله, متعاونين على البر والتقوى, قال الله تعالى: " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " إلى آخر الاية, وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم, فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان, وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين, فعتب من عتب منهم, بما فضل عليهم في القسم, بما أراه الله فخطبهم فقال "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي. وكنتم متفرقين فألفكم الله بي, وعالة فأغناكم الله بي ؟ فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن " . وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: أن هذه الاية نزلت في شأن الأوس والخزرج, وذلك أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج, فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة, فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب, ففعل, فلم يزل ذلك دأبه, حتى حميت نفوس القوم, وغضب بعضهم على بعض, وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتوعدوا إلى الحرة, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ وتلا عليهم هذه الاية, فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم " . وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك, والله أعلم.