بعد انقضاء أيام قليلة منذ أنزلت حكومة سريلانكا الهزيمة بخصمها العتيد نمور التاميل في شهر مايو/ أيار، طار بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة إلى عاصمة البلاد كولومبو في زيارة استمرت 24 ساعة لحث رئيسها على فتح معسكرات اللاجئين أمام المساعدات الدولية. وكانت هذه زيارة عاجلة أخرى يقوم بها بان كي مون إلى عاصمة مزقتها الحرب، كجزء من واجباته العادية بصفته الممثل الأكبر للأمم المتحدة، سعياً إلى دعم السلام واستعادة السلوك المتحضر.
ولكن من كان يعرف الكثير حقاً عن هذه الغزوة الأخيرة التي قام بها كبير الأمم المتحدة إلى تلك المنطقة المضطربة؟ القليل من الناس في الواقع. إن بان كي مون الذي بلغ نقطة منتصف الطريق نحو نهاية ولاية الخمس سنوات لم ينجح حتى الآن في اجتذاب جمهور عالمي كبير لأنشطته. ويرجع هذا جزئياً إلى أسباب تتعلق بالأسلوب، ولكنه راجع أيضاً إلى نزوات وتقلبات دبلوماسية الأمم المتحدة.
ورغم ذلك فإن بان كي مون ينفق أكثر من ثلث وقته مسافراً، ولقد أنجز الكثير على مدى الثلاثين شهراً الماضية. ففي دارفور تمكن أثناء عامه الأول في المنصب من إدخال قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي إلى منطقة القتل في السودان، وذلك من خلال دبلوماسية الكواليس المكثفة. ورغم توقف العملية السياسية هناك منذ ذلك الوقت، إلا أنه نجح في الدفع بالمزيد من قوات حفظ السلام والطائرات العمودية إلى المنطقة.
وفي كوسوفو تمكن بان كي مون من خفض حدة التوتر المحيط بقضية استقلال الإقليم. كما تمكن من إقناع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بالسماح بالإشراف المستمر للأمم المتحدة في كوسوفو، مع ترسيخ الحكم الذاتي تدريجياً وكل ذلك من دون إشعال مواجهات خطيرة مع الدولتين اللتين تعارضان انفصال كوسوفو، وهما صربيا وحليفتها الوثيقة روسيا.
وفي ميانمار نجح بان كي مون، على الرغم من المقاومة المريرة من جانب النظام العسكري، في إقناع السلطات بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية بعد إعصار نرجس الذي دمر البلاد في العام الماضي. كما ساعد بمناشداته العامة والخاصة، بما في ذلك العشرات من المكالمات الهاتفية والاجتماعات، على إنقاذ ربع مليون من أرواح البشر. واليوم يواصل دعوته إلى إطلاق سراح زعيمة الحركة الديمقراطية في ميانمار أونج سان سون كي.
وفي هايتي، التي ما زالت تعاني من تأخر التنمية والاضطرابات السياسية والآثار المدمرة للأعاصير، قام بان كي مون بتعيين رئيس الولايات المتحدة الأسبق بِل كلينتون ممثلاً خاصاً له للمساعدة على التعامل مع المحنة التي تمر بها البلاد. ولقد جاء هذا في أعقاب زيارتين قام بهما إلى هايتي على مدى الثمانية عشر شهراً الماضية وبعد مؤتمر المانحين الذي انعقد تحت رعايته في شهر إبريل/ نيسان، والذي سعى من خلاله إلى جمع 300 مليون دولار في هيئة مساعدات واستثمارات.
وفي الآونة الأخيرة قام بان كي مون بدور نشط في التعامل مع أزمة غزة. كما دافع بانتظام عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، ولكنه دان أيضاً هجمات حماس الصاروخية ضد جنوب “إسرائيل”. وإثناء القتال في غزة طالب علناً بوقف الحرب كما طالب “إسرائيل” بفتح حدود غزة أمام مساعدات الإغاثة. ولقد زار مجمع الأمم المتحدة في وسط قطاع غزة للإعراب عن انزعاج الأمم المتحدة الشديد إزاء قصف القطاع.
اتخذ بان كي مون موقفاً قيادياً في التعامل مع مشكلة الانحباس الحراري العالمي. ولقد تناول هذه القضية في إطار مؤتمر بالي في عام ،2007 وجعلها على رأس أولوياته في الأمم المتحدة، وسوف يحاول صياغة اتفاق جديد بين كافة دول العالم في مؤتمر الأمم المتحدة الذي سينعقد في كوبنهاجن في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2009.
كما أحرز بان كي مون تقدماً ملموساً في مجال الصحة. فقد عمل على التعجيل بالجهود الرامية إلى القضاء على أشد أوبئة العالم خطورة وأقدمها الملاريا وذلك بتعيين مستشار خاص لشؤون هذا الوباء، ومن خلال صياغة شراكة إبداعية في إطار منظمة الأمم المتحدة، وهي الشراكة التي نجحت في الجمع بين صناعات القطاع الخاص والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية. ولقد ساعدت حملته بالفعل على الحد من انتشار مرض الملاريا.
إن مشكلة بان كي مون تتلخص في أسلوبه المتردد الخجول، وهو ما يشكل تناقضاً صارخاً مع الأسلوب الذي انتهجه سلفه كوفي أنان، الأمين العام الذي هيمن على المشهد العالمي من خلال موهبته وفصاحته ونجوميته. وفي المقابل، لا يتمتع بان كي مون بجاذبية شخصية وهو ليس بالمتحدث المفوه الملهم، بل إنه لا يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة كما كانت حال أنان. ولكنه رغم ذلك، وبأسلوبه الخاص، رجل مشارك ومهذب ومطلع على رموز الثقافة المعاصرة، بل إنه معتاد على الغناء في المناسبات العامة بكلمات وأشعار ظريفة.
غير أن بان كي مون كان موضعاً للانتقاد لأنه لا يبذل المزيد من الجهد، ولا ينصت بالقدر الكافي، ولا يبالي كثيراً بالدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن. ومن بين الشكاوى الرئيسية لهذه الدول أن التفاهم معه قد يكون صعباً. ذلك أن بان كي مون يومئ برأسه على نحو مهذب دوماً في إشارة إلى الموافقة ولكن من دون أن يعطي إرشاداً واضحاً. ويقول آخرون إنه ما زال عليه أن يثبت براعته كإداري، وإنه لا بد وأن يدفع نحو المزيد من الإصلاحات الإدارية الداخلية في الأمم المتحدة. ولكنه بدوره ينتقد علناً البلدان الأعضاء لأنها لا توفر له الموارد الكافية. ولكن أياً كانت الحقيقة فإن قِلة من المنتقدين يأخذون في الاعتبار أنه، شأنه في ذلك شأن جميع الرؤساء التنفيذيين السابقين للأمم المتحدة، لا بد وأن يتعامل مع حقيقة مفادها أنه لا يتمتع إلا بسلطة أخلاقية، ولا يمتلك أي سلطة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية. ورغم كل ذلك فقد أظهر بان كي مون طيلة فترة ولايته غريزة تقدمية صادقة في التعامل مع القضايا، رغم أن ترشيحه كان في الأساس مدعوماً من جانب الحكومة الصينية، والمبعوث الأمريكي للمنظمة جون بولتون، الذي دأب على تقريع الأمم المتحدة. وفي النهاية يتعين علينا أن نقيس أداء بان كي مون على ما تمكن من إنجازه بالفعل وليس على نقاط ضعفه الشخصية أو رتابة أسلوبه.
زميل مؤسسة القرن، ومؤلف كتاب “قانون الإنشاء” عن تأسيس الأمم المتحدة. والمقال ينشر بالترتيب مع “بروجيكت سنديكيت” |