في الاصحاح الثاني عشر من التكوين: أن " ابراهيم " إدعى أمام " فرعون " أن " سارة " اخته وكتم أنها زوجته، فأخذها فرعون لجمالها " وصنع إلى ابراهيم خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال ".
وحين علم فرعون أن سارة كانت زوجة إبراهيم وليست اخته قال له: " لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت: هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي ". ثم رد فرعون سارة إلى إبراهيم. ومغزى هذه القصة أن إبراهيم صار سببا لاخذ فرعون سارة زوجة إبراهيم زوجة له. وحاشا إبراهيم ـ وهو من أكرم أنبياء الله ـ أن يرتكب ما لا يرتكبه فرد عادي من الناس.
3 ـ وفي الاصحاح التاسع عشر من سفر التكوين: قصة " لوط " مع ابنتيه في الجبل، وأن الكبيرة قالت لاختها: " أبونا قد شاخ وليس في الارض رجل ليدخل علينا.. هامي نسقي أبانا خمرا، ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة " واضطجعت معه الكبيرة. وفي الليلة الثانية سقتاه الخمر أيضا، ودخلت معه الصغيرة فحملتا منه، وولدت البكر إبنا وسمته " موآب " وهو أب الموآبيين، وولدت الصغيرة إبنا فسمته " بزعمي " وهو أبو بني عمون إلى اليوم. هذا ما نسبته التوراة الرائجة إلى لوط نبي الله وإلى ابنتيه، وليحكم الناظر فيها عقله، ثم ليقل ما يشاء.
4 ـ وفي الاصحاح السابع والعشرين من التكوين: أن " إسحق " أراد أن يعطي إبنه " عيسو " بركة النبوة فخادعه " يعقوب " وأو همه أنه عيسو، وقدم له طعاما وخرما فأكل وشرب، وبهذه الحيلة والكذب المتكرر توسل إلى أن باركه الله. وقال له اسحق: " كن سيدا لاخوتك، ويسجد ك بنو أمك ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين "، ولما جاء عيسو علم أن أخاه
===============
(52)
يعقوب قد انتهب بركة النبوة. فقال لابيه: " باركني أنا أيضا يا أبي. فقال: جاء أخوك بمكرو أخذ بركتك ". ثم قال عيسو: " أما أبقيت لي بركة "؟ فقال إسحق: " إني قد جعلته سيدا لك، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا، وعضدته بحنطة وخمر. فماذا أصنع اليك يا ابني؟ ورفع عيسو صوته وبكى ". أفهل يعقل انتهاب النبوة؟ وهل يعطي الله نبوته لمخادع كاذب، ويحرم منها أهلها؟ وهل أن يعقوب بعمله هذا خادع الله أيضا كما خادع إسحق ولم يقدر الله بعد ذلك على إرجاعها إلى أهلها؟!!
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولعل سكرة الخمر دعت إلى وضع هذه السخافة، والى نسبة شرب الخمر إلى إسحق.
5 ـ وفي الاصحاح الثامن والثلاثين من التكوين: أن " يهوذا " بن يعقوب زنى بزوجة ابنه " عير " المسماة " بثامار " وأنها حبلت منه وولدت له ولدين " فارص " و " زارح "، وقد ذكر انجيل متى في الاصحاح الاول نسب يسوع المسيح تفصيلا، وجعل المسيح وسليمان وأباه داود من نسل فارص " هذا الذي ولد من زنا يهوذا بكنته ثامار ".
حاشا أنبياء الله أن يولدوا من الزنى، كيف وأن تنسب اليهم الولادة من الزنى بذات محرم!! ولكن واضع التوراة الرائجة لا يبالي بما يكتب وبما يقول!!.
6 ـ وفي الاصحاحين الحادي والثاني عشر من صموئيل الثاني: أن داود زنى بامرأة " اوريا " المجاهد المؤمن. وحملت من ذلك الزنى، فخشي داود الفضيحة، وأراد تمويه الامر على اوريا، فطلبه وأمره أن يدخل بيته فأبى " اوريا " وقال: " سيدي ـ يوآب ـ وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي، وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الامر " فلما يئس داود من التموية أقامه عنده اليوم، ودعاه فأكل عنده وشرب وأسكره وفي الصباح كتب داود إلى يوآب: " اجعلوا اوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت " وقد فعل يوآب ذلك فقتل اوريا، وأرسل
===============
(53)
إلى داود يخبره بذلك، فضم داود امرأة اوريا إلى بيته وصارت امرأة له بعد انتهاء مناحتها على بعلها. وفي الاصحاح الاول من انجيل متى: أن سليمان بن داود ولد من تلك المرأة. تأمل كيف تجرأ هذا الوضع على الله؟ وكيف تصح نسبة هذا الفعل إلى من له أدنى غيرة وحمية فضلا عن نبي من أنبياء الله؟ وكيف يجتمع هذا مع ما في انجيل لوقا من أن المسيح يجلس على كرسي داود أبيه؟!!
7 ـ وفي الاصحاح الحادي عشر من الملوك الاول: أي سليمان كانت له سبعمائة زوجة من السيدات، وثلاثمائة من السراري، فأمالت النساء قلبه وراء آلهة اخرى " فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين، وملكوم، رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب.. فقال الرب: إني امزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك ". وفي الثالث والعشرين من الملوك الثاني: أن المرتفعات التي بناها سليمان لعشتورث رجاسة الصيدونيين وك " كموش " رجاسة الموآبيين ولملكوم كراهة بني عمون نجسها الملك " يوشيا " وكسر التماثيل وقطع السواري، وكذلك فعل بجميع آثار الوثنيين. هب أن النبي لا يلزم أن يكون معصوما ـ والادلة العقلية قائمة على عصمته ـ فهل يجوز له في حكم العقل أن يعبد الاصنام، وأن يبني لها المرتفعات ثم يدعو الناس إلى التوحيد والى عبادة الله؟ كلا!!!
وفي الاصحاح الاول من كتاب " هوشع ": أن " أول ما كلم الرب هوشع. قال الرب لهوشع: اذهب خذلنفسك امرأة زنى، وأولاد زنى، لان الارض قد زنت زنى تاركة الرب، فذهب وأخذ " جومر " بنت دبلايم فحبلت، وولد له ابنان وبنت ". وفي الاصحاح الثالث: أن الرب قال له: " إذهب أيضا أحبب امرأة ـ حبيبة صاحب وزانية ـ كمحبة الرب لبني إسرائيل ". أهكذا يكون أمر الله، يأمر نبيه بالزنى وبمحبة امرأة زانية؟ تعالى عن
===============
(54)
ذلك علوا كبيرا. ولا عجب في أن الكاتب لا يدرك قبح ذلك. وإنما العجب من الامم المثقفة ورجال العصر، ومهرة العلوم الناظرين في التوراة الرائجة، والمطلعين على ما اشتملت عليه من الخرافات، كيف تعتقد بأنها وحي إلهي وكتاب سماوي. نعم ان تقليد الآباء كالغريزة الثانوية، يصعب التنازل عنه إلى اتباع الحق والحقيقة. والله الهادي والموفق.
9 ـ وفي الاصحاح الثاني عشر من إنجيل متى، والثالث من مرقس والثامن من لوقا: أن المسيح فيما هو يكلم الجموع " إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك. فأجاب وقال للقائل له: من هم أمي ومن هم إخوتي، ثم مديده نحو تلاميذه وقال: هاأمي وإخوتي، لان من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي ". انظر إلى هذا الكلام وتأمل ما فيه من سخافة. ينتهر المسيح امه القديسة البرة ويحرمها رؤيته، ويعرض بقداستها، ويفضل تلاميذه عليها وهم الذين قال فيهم المسيح: " إنهم لا إيمان لهم " كما في الرابع من مرقس، وإنه ليس لهم من الايمان مثل حبة خردل كما في السابع عشر من متى، وهم الذين طلب منهم المسيح أن يسهروا معه ليلة هجوم اليهود عليه فلم يفعلوا، ولما أمسكه اليهود في الظاهر تركه التلاميذ كلهم وهربوا، كما في الاصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى، إلى ما سوى ذلك من الشنائع التي نسبتها اليهم الاناجيل.
10 ـ وفي الاصحاح الثاني من يوحنا: أن المسيح حضر مجلس عرس فنفد خمرهم، فعمل لهم ستة أجران من الخمر بطريق المعجزة. وفي الحادي عشر من متى، والسابع من لوقا: أن المسيح كان يشرب الخمر، بل كان شريب خمر " كثير الشرب لها ". حاشا قدس المسيح من هذا البهتان العظيم. فقد جاء في العاشر اللاويين أن الرب قال؟ لهرون: " خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم
===============
(55)
خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا، فرضا دهريا في أجيالكم، وللتمييز بين المقدس والمحلل، وبين النجس والطاهر ". وفي الاول من لوقا في مدح يوحنا المعمدان: " لانه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب ". إلى غير ذلك مما دل على حرمة شرب الخمر في العهدين. هذه أمثلة يسيرة في كتب العهدين الرائجة من سخافات وخرافات، وأضاليل وأباطيل لا تلتئم مع البرهان، ولا تتمشى مع المنطق الصحيح، وضعناها أمام القارئ ليمعن النظر فيها، وليحكم عقله ووجدانه. وهل يمكن أن يحكم أن محمدا (صلى الله عليه وآله) قد اقتبس معارفه، وأخذ محتويات قرآنه العظيم من هذه السخافات وهو على ما هو عليه من سمو المعارف، ورصانة التعليم؟ وهل يمكن أن تنسب هذه الكتب السخيفة إلى وحي السماء وهي التي لوثت قداسة الانبياء بما ذكرناه وبما لم نذكره (1)؟
3 ـ القرآن والاستقامة في البيان: قد علم كل عاقل جرب الامور، وعرف مجاريها أن الذي يبني أمره على الكذب والافتراء في تشريعه وأخباره، لا بد من أن يقع منه التناقض والاختلاف، ولا سيما إذا تعرض لكثير من الامور المهمة في التشريع والاجتماع والعقائد، والنظم الاخلاقية المبتنية على أدق القواعد، وأحكم الاسس، ولا سيما إذا طالت على ذلك المفتري أيام، ومرت عليه أعوام. نعم لا بد من أن يقع في التناقض والتهافت من حيث يريد أو لا يريد، لان ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص إذا خلا من التسديد. وقد قيل في المثل المعروف: لا حافظة لكذوب. وقد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشؤون، وتوسع فيها أحسن التوسع
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الهدى إلى دين المصطفى. والرحلة المدرسية لشيخنا البلاغي. وكتابنا الاعجاز، تجد في هذه الكتب، الشئ الكثير من نقل هذه الخرافات. (*)
===============
(56)
فبحث في الالهيات ومباحث النبوات، ووضع الاصول في تعاليم الاحكام والسياسات المدنية، والنظم الاجتماعية، وقواعد الاخلاق. وتعرض لامور أخرى تتعلق بالفلكيات والتاريخ، وقوانين السلم والحرب، ووصف الموجودات السماوية والارضية من ملك وكواكب ورياح، وبحار ونبات وحيوان وإنسان، وتعرض لانواع الامثال، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها فلم توجد فيه أية مناقضة ولا أدنى اختلاف ولم يتباعد عن أصل مسلم عندالعقل والعقلاء.
وربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين أو أكثر، فلا تجد فيه أقل تهافت وتدافع. وإليك قصة موسى (عليه السلام)، فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة، وفي كل مرة تجد لها مزية تمتازبها من غير اختلاف في جوهر المعنى. وإذاعرفت أن الآيات نزلت نجوما متفرقة على الحوادث، علمت أن القرآن روح من أمر الله، لان هذا التفرق يقتضي بطبعه عدم الملاءمة والتناسب حين يجتمع. ونحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين، نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه، فلما اجتمع حصل له إعجازآخر. وقد أشار إلى هذا النحو من الاعجاز قوله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا 4: 82 ".
وهذه الآية تدل الناس على أمر يحسونه بفطرتهم، ويدركونه بغريزتهم، وهو أن من يعتمد في دعواه على الكذب والافتراء لا بد له من التهافت في القول، والتناقض في البيان، وهذا شئ لم يقع في الكتاب العزيز. والقرآن يتبع هذه الخطة في كثير من استدلالاته واحتجاجاته، فيرشد الناس إلى حكم الفطرة، ويرجعهم إلى الغريزة، وهي أنجح طريقة في الارشاد، وأقربها إلى الهداية. وقد أحست العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن،
===============
(57)
واستيقنت بذلك بلغاؤهم. وإن كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك، حيث قال ـ حين سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولا: " فما أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم في الاشعار مني ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى. قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال الوليد: فدعني حتى افكر فيه فلما فكر. قال: هذا سحر يأثره عن غيره " (1).
وفي بعض الروايات قال الوليد: " والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الانس ومن كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر " (2)...
وإذا أردت أن تحس ذلك من نفسك فانظر إلى الكتب المنسوبة إلى الوحي، فانك تجدها متناقضة المعاني، مضطربة الاسلوب، لا تنهض ولا تتماسك. وإذا نظرت إلى كتب العهدين، وما فيها من تضارب وتناقض تجلت لك حقيقة الامر، وبان لك الحق من الباطل. وهنا نذكر أمثلة مما وقع في الاناجيل من هذا الاختلاف:
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري ج 29 ص 98.
(2) تفسير القرطبي ج 19 ص 72. (*)
===============
(58)
1 ـ في الاصحاح الثاني عشر من إنجيل متى، والحادي عشر من لوقا: إن المسيح قال: " من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفرق ". وقال في التاسع من مرقس، والتاسع من لوقا: " من ليس علينا فهو معنا ".
2 ـ وفي التاسع عشر من متى، والعاشر من مرقس، والثامن عشر من لوقا: إن بعض الناس قال للمسيح: " أيها المعلم الصالح. فقال: لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله ". وفي العاشر من يوحناأنه قال: " أنا هو الراعي الصالح... أما أنا فإني الراعي الصالح ".
3 ـ وفي السابع والعشرين من متى قال: " كان اللصان اللذان صلبامعه ـ المسيح ـ يعيرانه "، وفي الثالث والعشرين من لوقا: " وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا، فأجاب الآخر وانتهره قائلا: أولا أنت تخاف الله؟ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه ".
4 ـ وفي الاصحاح الخامس من انجيل يوحنا: " إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا ". وفي الثامن من هذا الانجيل نفسه أنه قال: " وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق ". هذه نبذة ممافي الاناجيل ـ على ما هي عليه من صغر الحجم ـ من التضارب والتناقض. وفيها كفاية لمن طلب الحق، وجانب التعصب والعناد (1).
2 ـ القرآن في نظامه وتشريعه: يبدو لكل متتبع للتاريخ ما كانت عليه الامم قبل الاسلام من الجهل، وما وصلت اليه من الانحطاط في معارفهم وأخلاقهم. فكانت الهمجية سائدة عليهم،
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) وللزيادة راجع كتابي " الهدى والرحلة المدرسية " لشيخنا البلاغي قدس سره وكتابنا " نفحات الاعجاز ". (*)
===============
(59)
والغارات متواصلة فيما بينهم، والقلوب متجهة إلى النهب والغنيمة، والخطى مسرعة إلى إصلاء نيران الحروب والمعارك. وكان للعرب القسم الوافر من خرافات العقيدة، ووحشية السلوك، فلا دين يجمعهم، ولا نظام يربطهم وعادات الآباء تذهب بهم يمينا وشمالا، وكان الوثنيون في بلاد العرب هم السواد الاعظم فكانت لهم ـ باختلاف قبائلهم وأسرهم ـ آلهة يعبدونها ويتخذونها شفعاء إلى الله، وشاع بينهم الاستقسام بالانصاب والازلام، واللعب بالميسر، حتى كان الميسر من مفاخرهم (1) وكان من عاداتهم التزويج بنساء الآباء (2) ولهم عادة اخرى هي أفظع منها ـ وهي وأد البنات ـ دفنهن في حال الحياة (3).
هذه بعض عادات العرب في جاهليتهم. وحين بزغ نور محمد (صلى الله عليه وآله) وأشرقت شمس الاسلام في مكة، تنوروا بالمعارف، وتخلقوا بمكارم الاخلاق، فاستبدلوا الوثنية بالتوحيد، والجهل بالعلم، والرذائل بالفضائل، والشقاق والتخالف بالاخاء والتآلف، فأصبحوا أمة وثيقة العرى مدت جناح ملكها على العالم، ورفعت أعلام الحضارة في أقطار الارض وأرجائها. قال ألدوري (4):
" وبعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة، تقصد مقصدا واحدا، ظهرت للعيان أمة كبيرة، مدت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند، ورفعت على منار الاشادة أعلام التمدن في أقطار الارض، أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة. ثم قال: إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الامم، وانقشعت
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) بلوغ الارب ج 3 ص 50 طبع مصر (2) نفس المصدر ج 2 ص 52.
(3) نفس الصمدر ج 3 ص 43 (4) هو أحد وزراء فرنسا السابقين. (*)
===============
(60)
بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على اوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين " (1).
نعم إن جميع ذلك كان بفضل تعاليم كتاب الله الكريم الذي فاق جميع الصحف السماوية. فإن للقرآن في أنظمته وتعاليمه مسلكا يتمشى مع البراهين الواضحة، وحكم العقل السليم، فقد سلك سبيل العدل، وتجنب عن طرفي الافراط والتفريط. فتراه في فاتحة الكتاب يطلب عن لسان البشر من الله الهداية إلى الصراط المستقيم بقوله: " إهدنا الصراط المستقيم 1: 6 ".
وهذه الجملة على وجازتها واختصار ألفاظها واسعة المعنى بعيدة المدى. وسنتعرض لما يتيسر من بيان ذلك عند تفسيرنا للآية المباركة إن شاء الله تعالى. وقد أمر القرآن بالعدل وسلوك الجادة الوسطى في كثير من آياته. فقال: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل 4: 58. اعدلوا هو أقرب للتقوى 5: 8.
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى 6: 152.
إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون 16: 90 ".
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) صفوة العرفان لمحمد فريد وجدي ص 119. (*)
===============
(61)
نعم قد أمر القرآن بالعدل، وسلك في تعاليمه مسلك الاستقامة، فنهى عن الشح في عدة مواضع، وعرف الناس مفاسده وعواقبه: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون بما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والارض والله بما تعملون خبير 3: 18 ".
بينما قد نهى عن الاسراف والتبذير ودل الناس على مفاسدهما: " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 6: 141. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين 17: 27.
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا: 29 ".
وأمر بالصبر على المصائب وبتحمل الاذى، ومدح الصابر على صبره، ووعده الثواب العظيم: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب 39: 10.
والله يحب الصابرين 3: 146 ". وإلى جانب هذا لم يجعل المظلوم مغلول اليد أمام ظالمه، بل أباح له أن ينتقم
===============
(62)
من الظالم بمثل ما اعتدى عليه، حسما لمادة الفساد، وتحقيقا لشريعة العدل: " فمن أعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم 2: 194 ".
وجوز لولي المقتول أن يقتص من القاتل العامد: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل 17: 33 ".
والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال، وأمره بالعدل والاستقامة قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة، وتكفل بما يصلح الاولى، وبما يضمن السعادة في الاخرى، فهو الناموس الاكبر جاء به النبي الاعظم ليفوز به البشر بكلتا السعادتين، وليس تشريعه دنيويا محضا لا نظر فيه إلى الآخرة، كما تجده في التوراة الرائجة، فإنها مع كبر حجمها لا تجد فيها موردا تعرضت فيه لوجود القيامة، ولم تخبر عن عالم آخر للجزاء على الاعمال الحسنة والقبيحة. نعم صرحت التوراة بأن أثر الطاعة هو الغنى في الدنيا، والتسلط على الناس باستعبادهم، وأن أثر المعصية والسقوط عن عين الرب هو الموت وسلب الاموال والسلطة. كما أن تشريع القرآن ليس أخرويا محضا لا تعرض له بتنظيم أمور الدنيا كما في شريعة الانجيل. فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر إلى صلاح الدنيا مرة والى صلاح الآخرة مرة أخرى. فيقول في تعليماته. " ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم 4: 13.
===============
(63)
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين: 14. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره 99: 7. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره: 8. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا 28: 77 ".
ويحث الناس ـ في كثير من آياته ـ على تحصيل العلم، وملازمة التقوى بينما يبيح لهم لذائذ الحياة وجميع الطيبات: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق 7: 32 ".
ويدعو كثيرا إلى عبادة الله، والى التفكر في آياته التشريعية والتكوينية والى التأمل والتدبر في الآفاق وفي الانفس، ومع ذلك لم يقتصر على هذه الناحية التي توصل الانسان بربه، بل تعرض للناحية الاخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه. وأحل له البيع: " وأحل الله البيع وحرم الربا 2: 275 ". وأمره بالوفاء بالعقود. " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود 5: 1 ".
===============
(64)
وأمر بالتزويج الذي يكون به بقاء النوع الانساني: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمآئكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم 24: 32.
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة 4: 3 ".
وأمر الانسان بالاحسان إلى زوجتة، والقيام بشؤونها، والى الوالدين والاقربين، والى عامة المسلمين، بل والى البشر كافة. فقال: " وعاشروهن بالمعروف 4: 19.
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف 2: 228.
واعبدوا الله ولا تشركوابه شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا 4: 36. وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين 28: 77.
إن رحمة الله قريب من المحسنين 7: 56. وأحسنوا إن الله يحب المحسنين 2: 195 ".
===============
(65)
هذه أمثلة من تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال، وقد أوجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع أفراد الامة، ولم يخصه بطائفة خاصة، ولا بأفراد مخصوصين، وهو بهذا التشريع قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار ونفخ فيها روح الحياة والاستمرار. فقد جعل كل واحد من أفراد العائلة والبيئة مرشدا لهم، ورقيبا عليهم، بل جعل كل مسلم دليلا وعينا على سائر المسلمين يهديهم إلى الرشاد، ويزجرهم عن البغي والفساد، فالمسلمون بأجمعهم مكلفون بتبليغ الاحكام، وبتنفيذها، أفهل تعلم جنودا هي أقوى وأعظم تأثيرا من هذه الجنود ونحن نرى السلاطين ينفذون إرادتهم على الرعية بقوة جنودهم. ومن الواضح أنهم لا يلازمون الرعية في جميع الامكنة والازمان، فكم فرق بين جند الاسلام، وجند السلاطين. ومن أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين، وتوحد بين صفوفهم: المؤاخاة بين طبقات المسلمين، ونبذ الميزات إلا من حيث العلم والتقوى حيث يقول: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم 49: 13.
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون 39: 9 ".
قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): إن الله عز وجل أعز بالاسلام من كان في الجاهلية ذليلا، وأذهب بالاسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها، وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم، وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم. وان آدم خلقه الله من طين، وان أحب الناس (البيان ـ 5)
===============
(66)
إلى الله عز وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم " (1)... وقال: " فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناكم " (2).
فالاسلام قدم سلمان الفارسي لكمال إيمانه حتى جعله من أهل البيت (3) وأخر أبا لهب عم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لكفره. انك ترى أن نبي الاسلام لم يفتخر على قومه بنسب ولا حسب، ولا بغيرهما مما كان الافتخار به شائعا في عصره، بل دعاهم إلى الايمان بالله وباليوم الآخر، وإلى كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، وبذلك قد تمكن أن يسيطر على أمة كانت تتفاخر بالانساب بقلوب ملؤها الشقاق والنفاق، فأثر في طباعها حتى أزال الكبر والنخوة منها، فأصبح الغني الشريف يزوج ابنته من المسلم الفقير وإن كان أدنى منه في النسب (4).
هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه، تنفقد مصالح الفرد، ومصالح المجتمع، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك، ما يعود منها إلى الدنيا وما يرجع إلى الآخرة. فهل يشك عاقل بعد هذا في نبوة من جاء بهذا الشرع العظيم، ولا سيما إذا لاحظ أن نبي الاسلام قد نشأ بين أمة وحشية، لا معرفة لها بشئ من هذه التعليمات؟!!
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) فروع الكافي ج 2 باب 21 ان المؤمن كفؤ المؤمنة.
(2) الجامع الصغير بشرح المناوي ج 4 ص 432.
(3) البحار ج 76 باب فضائل سلمان.
(4) ومن ذلك تزويج زياد بن لبيد وهو من أشرف بني بياضة ابنته من جويبر لاسلامه. وقد كان رجلا قصيرا ذميما محتاجا عاريا، وكان من قباح السودان. فروع الكافي ج 2 باب 21 ان المؤمن كفؤ المؤمنة. (*)
===============
(67)
4 ـ القرآن والاتقان في المعاني: تعرض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد، متباعدة الاغراض من الآلهيات والمعارف، وبدء الخلق والمعاد، وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبيس والجن، والفلكيات، والارض، والتاريخ، وشؤون فريق من الانبياء الماضين، وما جرى بينهم وبين أممهم، وللامثال والاحتجاجات والاخلاقيات، والحقوق العائلية، والسياسات المدنية، والنظم الاجتماعية والحربية، والقضاء والقدر، والكسب والاختيار، والعبادات والمعاملات، والنكاح والطلاق، والفرائض، والحدود والقصاص وغير ذلك.
وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة، التي لا يتطرق اليها الفساد والنقد في أية جهة من جهاتها، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا شئ يمتنع وقوعه عادة من البشر ـ ولا سيما ممن نشأ بين أمة جاهلة لا نصيب لها من المعارف، ولا غيرها من العلوم ـ ولذلك نجد كل من ألف في علم من العلوم النظرية، لا تمضي على مؤلفه مدة حتى يتضح بطلان كثير من آرائه. فإن العلوم النظرية كلما ازداد البحث فيها وكثر، ازدادت الحقائق فيها وضوحا، وظهر للمتأخر خلاف ما أثبته المتقدم، والحقيقة ـ كما يقولون ـ بنت البحث، وكم ترك الاول للآخر، ولهذا نرى كتب الفلاسفة الاقدمين، ومن تأخر عنهم من أهل التحقيق والنظر قد صارت عرضة لسهام النقد ممن تأخر، حتى أن بعض ما اعتقده السابقون برهانا يقينيا، أصبح بعد نقده وهما من الاومام، وخيالا من الاخيلة.
والقرآن مع تطاول الزمان عليه، وكثرة أغراضه، وسمو معانيه، لم يوجد فيه ما يكون معرضا للنقد والاعتراض، اللهم إلا أوهام من بعض المكابرين، حسبوها من النقد. وسنتعرض لها، ونوضح بطلانها إن شاءالله تعالى. القرآن والاخبار بالغيب: أخبر القرآن الكريم في عدة من آياته عن امور مهمة، تتعلق بما يأتي من
===============
(68)
الانباء والحوادث، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقا، لم يخالف الواقع في شئ منها. ولا شك في أن هذا من الاخبار بالغيب، ولا سبيل اليه غير طريق الوحي والنبوة. فمن الايات التي أنبأت عن الغيب قوله تعالى: " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين 8: 7 ".
وهذه الاية نزلت في وقعة بدر، وقد وعد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم وبقطع دابر الكافرين، والمؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد والعدة، حتى أن الفارس فيهم كان هو المقداد، أو هو والزبير بن العوام والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة، وقد وصفتهم الاية بأنهم ذووا شوكة، وأن المؤمنين أشفقوا من قتالهم، ولكن الله يريد أن يحق الحق بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوعده، ونصرهم على أعدائهم، وقطع دابر الكافرين. ومنها قوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 15: 94. إنا كفيناك المستهزئين: 95.
الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون: 96 ". فإن هذه الاية الكريمة نزلت بمكة في بدء الدعوة الاسلامية، وقد أخرج البزار والطبرانى في سبب نزولها عن أنس بن مالك: أنها نزلت عند مرور النبي
===============
(69)
(صلى الله عليه واله وسلم) على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: " هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبرئيل ". (1) فأخبرت الاية عن ظهور دعوة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ونصرة الله له، وخذلانه للمشركين الذين ناوأوه واستهزأوا بنبوته، واستخفوا بأمره. وكان هذا الاخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس انحطاط شوكة قريش، وانكسار سلطانهم، وظهور النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عليهم. ونظير هذه الاية قوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون 61: 9 ".
ومن هذه الانباء قوله تعالى: " غلبت الروم 30: 2. في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون: 3 ". وقد وقع ما أخبرت به الاية بأقل من عشر سنين، فغلب ملك الروم، ودخل جيشه مملكة الفرس. ومنها قوله تعالى: " أم يقولون نحن جميع منتصر 54: 44. سيهزم الجمع ويولون الدبر: 45 ".
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) لباب النقول ص 133 جلال الدين السيوطي. (*)
===============
(70)
فأخبر عن انهزام جمع الكفار وتفرقهم وقمع شوكتهم، وقد وقع هذا في يوم بدر أيضا حين ضرب أبو جهل فرسه، وتقدم نحو الصف الاول قائلا: " نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه " فأباده الله وجمعه، وأنار الحق ورفع مناره، وأعلى كلمته، فانهزم الكافرون، وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهم أحد بأن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ـ ليس لهم عدة، ولا يصحبون غير فرس أو فرسين وسبعين بعيرا يتعاقبون عليها ـ يظفرون بجمع كبير تام العدة وافر العدد، وكيف يستفحل أمر اولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير، حتى تذهب شوكته كرماد اشتدت به الريح، لولا أمر الله وإحكام النبوة وصدق النيات؟!. ومنها قوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب... سيصلى نارا ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب 111: 2 ". وقد تضمنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهب، ودخول زوجته النار. ومعنى ذلك هو الاخبار عن عدم تشرفهما بقبول الاسلام إلى آخر حياتهما، وقد وقع ذلك.
6 ـ القرآن وأسرار الخليقة: أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عما يتعلق بسنن الكون، ونواميس الطبيعة، والافلاك، وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الاسلام إلا من ناحية الوحي الالهي. وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك. وإن فريقا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم، وكثرة
===============
(71)
الاكتشافات. وهذه الانباء في القرآن كثيرة، نتعرض لها عند تفسيرنا الايات التي تشير اليها إن شاء الله تعالى. وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الامور، فصرح ببعضها حيث يحسن التصريح، وأشار إلى بعضها حيث تحمد الاشارة، لان بعض هذه الاشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر، فكان من الرشد أن يشير اليها إشارة تتضح لاهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم، وتكثر الاكتشافات. ومن هذه الاسرار التي كشف عنها الوحي السماوي، وتنبه اليها المتأخرون ما في قوله تعالى: " وأنبتنا فيها من كل شئ موزون 15: 19 ". فقد دلت هذه الاية الكريمة على أن كل ما ينبت في الارض له وزن خاص، وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر. وان نسبة بعض الاجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر. ومن الاسرار الغريبة ـ التي أشار اليها الوحي الالهي ـ حاجة إنتاج قسم من الاشجار والنبات إلى لقاح الرياح. فقال سبحانه: " وأرسلنا الرياح لواقح 15: 22 ". فإن المفسرين الاقدمين وإن حملوا اللقاح في الاية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنه أحد معانيه، وفسروا الاية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الذي يحمله السحاب، ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام،
===============
(72)
ولا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر. والنظرة الصحيحة في معنى الاية ـ بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات ـ تفيدنا سرا دقيقا لم تدركه أفكار السابقين، وهو الاشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح. وأن اللقاح قد يكون بسبب الرياح، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن، ونباتات الحبوب وغيرها، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الاكياس، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الازهار الاخرى عفوا. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن سنة الزواج لا تختص بالحيوان، بل تعم النبات بجميع أقسامه بقوله: " ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين 13: 3. سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون 36: 36 ". ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الارض. فقد قال عز من قائل: " الذي جعل لكم الارض مهدا 20: 53 ".
تأمل كيف تشير الاية إلى حركة الارض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون، وكيف تستعير للارض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع، يهتز بنعومة لينام فيه مستريحا هادئا؟ وكذلك الارض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية، وكما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته،
===============
(73)
فكذلك الارض، فإن حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الانسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات. تشير الاية المباركة إلى حركة الارض إشارة جميلة، ولم تصرح بها لانها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك (1).
ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا: وجود قارة اخرى. فقد قال سبحانه وتعالى: " رب المشرقين ورب المغربين 55: 17 ". وهذه الاية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى. فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. ولكن الظاهر أن المراد بها الاشارة إلى وجود قارة اخرى تكون على السطح الاخر للارض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنا. وذلك بدليل قوله تعالى: " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين 43: 38 ".
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) واجترأ الحكيم " غاليله " بعد الالف الهجري فأثبت الحركتين " الوضعية والانتقالية " للارض فأهانوه، واضطهدوه حتى قارب الهلكة، ثم سجن طويلا مع جلالته، وحقوقه العلمية فصار حكماء الافرنج يكتمون كشفياتهم الانيقة المخالفة للخرافات العتيقة خوفا من الكنيسة الرومية. الهيئة والاسلام ص 63 طبعة بغداد. (*)
===============
(74)
فإن الظاهر من هذه الاية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لان المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الارضية ليصح هذا التعبير، فالاية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن. فالايات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى: " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله 2: 115 ". والايات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الاشارة إلى القارة الموجودة على السطح الاخر من الارض. والايات التي ذكرت ذلك بلفط الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الارضية كما نشير اليه. ومن الاسرار التي أشار اليها القرآن الكريم كروية الارض فقال تعالى: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها 7: 137. رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق 37: 5. فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون 70: 40 ".
===============
(75)
ففي هذه الايات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها، وفيها إشارة إلى كروية الارض، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الارضية يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحا لا تكلف فيه ولا تعسف. وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار اليه، لان الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الاراضي. فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الارض وحركتها. وفي أخبار أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) وأدعيتهم وخطبهم ما يدل على كروية الارض. ومن ذلك ما روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: " صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت: إنما علينا أن نصلي وإذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى اولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم " (1).
يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الارض، ويقره الامام ـ (عليه السلام) ـ على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ج 1 ص 237 باب 116 ان أول وقت المغرب غروب الشمس. (*)
===============
(76)
ومثله قول الامام ـ (عليه السلام) ـ في خبر آخر: " إنما عليك مشرقك ومغربك ". ومن ذلك ما ورد عن الامام زين العابدين ـ (عليه السلام) ـ في دعائه عند الصباح والمساء: " وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا، وأمدا ممدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد " (1).
أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك العصور وهو كروية الارض، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك، تلطف ـ وهو الامام العالم بأساليب البيان ـ بالاشارة إلى ذلك على وجه بليغ، فإنه ـ (عليه السلام) ـ لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار، وينقص النهار تارة اخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل، لاقتصر على الجملة الاولى: " يولج كل واحد منهما في صاحبه " ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية: " ويولج صاحبه فيه " إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه، لان ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية، ففي هذا دلالة على كروية الارض، وان إيلاج الليل في النهار ـ مثلا ـ عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين. ولو لم تكن مهمة الامام ـ (عليه السلام) ـ الاشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الاخيرة فائدة، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الاولى. ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي، وخارج عن طوق البشر.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الصحيفة السجادية الكاملة. (*)
===============
(77)
وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة، فإنه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه، فمما لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي، ومقتبسة من أنواره، لان من يعرف تاريخ جزيرة العرب ـ ولا سيما الحجاز ـ لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: " أنه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين ".
بل أعود فأقول: إن تصديق علي (عليه السلام) ـ وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة، والمعارف وسائر العلوم ـ لاعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة، واليه تنتهي جميع العلوم الاسلامية وهو المثل الاعلى في المعارف، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف. وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال، كيف وهو منار الزهد والتقوى، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة، مع علمه بعاقبة الامر إذا عزله عن الولاية. وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا، مطابقا للواقع، ناشئا عن الايمان الصادق. وهذا هو الصحيح، والواقع المطلوب