المفكّر ناصر حامد أبو زيد:
الحكومة قدّمتني ثمناً لإرضاء الجماعات الدينيَّة
طالب المولي
سافرت إلى القاهرة التي ما زالت ذكرياتها ماثلة أمامي منذ عام 1982 حين زرتها للمرة الأولى... شوارعها مكتظة وأزقتها ضيقة ونيلها جميل وأهرامها تعانق روعتها السماء بشموخ وتحدّ وحضارتها راسخة رسوخ جبل المقطم.
لم تكن زيارتي لها هذه المرة رغبة في الاستجمام، بل لمقابلة مفكر حرمنا من لقائه في الكويت بسبب {فوبيا} الرأي الآخر، إنه د. نصر حامد أبو زيد، الذي لم أتعرّف إليه سوى عبر كتب ودراسات قرأتها.
قابلت أبو زيد في منزله في القاهرة. استقبلني بابتسامته العريضة، وقدم لي كوباً من الشاي أعدّه بنفسه، ذلك أن مسؤولية المشروبات أحد مهامه المنزلية، وهذا قانون وضعته زوجته د. ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي، بهدف توزيع العمل بين الرجل وزوجته.
بعد ذلك، عبرنا إلى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية التي يعتز أبو زيد بانتمائه إليها، وبين كل فكرة وكلمة جلت بعقلي في دروب من التفكير وبروح تجعل اليأس مستحيلاً.
بدأنا الحديث حول قضيته التي كانت سبباً للغضب المفتعل من نوابنا، الذين استأسدوا على الحكومة واستنفروا طاقاتهم لمنعه من دخول الكويت، وهم يعلمون ما قد يسببه هذا المفكر من غربلة للعقل والتفكير.
يقول أبو زيد: {بدأت القضية مع بحث قدمته إلى الجامعة لنيل ترقية إلى درجة الأستاذية، وكنت آنذاك استاذاً زائراً في اليابان. تطرّقت في المقدمة إلى الشركات الاستثمارية الإسلامية، بعدما شعرت بما يدبر ضد الناس المساكين، ولم أكن أعلم حينها أن د. عبد الصبور شاهين، الأستاذ المشرف على البحث، كان أحد مستشاري هذه الشركة الدينيين، فراح ينشر ما كتبته فيه بطريقة مغلوطة على منبر مسجد عمرو بن العاص حيث كان إماماً. هكذا وجدت نفسي وسط رحلة فظيعة من العذاب النفسي، لا سيما بعد تأجيج الرأي العام ضدي وإقناعه بأن كتاباتي محض كفر، حتى انتهى الأمر بي إلى المحكمة، واتهمت بأنني تعرضت في بحثي للدين سلباً وبأنني قلت إن النص الديني نص بشري}.
يضيف أبو زيد: {هذا الكلام غير صحيح بتاتاً. كنت الضحية في ظل العمليات الإرهابية المدمّرة التي كانت تتعرض لها مصر آنذاك، فقدمتني الحكومة ثمناً لنيل رضى الجماعات الدينية، بعد اغتيال المفكر فرج فوده ومحاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ وعمليات قتل الشرطة المتكررة... لمزيد من التفاصيل حول هذه القضية يمكن الرجوع إلى كتابيّ {التفكير في زمن التكفير} و{القول المفيد في قضية أبو زيد}.
كيف كانت ردة فعل المثقفين؟ يجيب أبو زيد: {يعيش المثقفون محنة الجهل ويحاول كثراً من هذه الجماعات إبقاء الشعب مغيّباً عن الواقع وعن أي بحث جديد يرفع هذه الجهالة عنه، خصوصاً أن أي تجديد للخطاب الديني، برأيهم، هو سحب السلطة من المتكسبين من وراء الدين. لا أخفيك أن حالة الرعب والإرهاب التي مورست ضد المثقفين جعلت كثر يقفون موقفاً سلبياً من هذه الأحداث في مصر التي أنجبت رفاعة الطهطاوي وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم من مفكرين وأدباء، وبهذا تحولت مصر الأدباء والمثقفين إلى مصر الجماعات المتطرفة} .
المغادرة ...
يتابع د. نصر: {حين اتهمت بالردة شعرت بمحاولات لاستتابتي، واقترح علي الأصدقاء أن المخرج الوحيد من هذا المأزق يكمن في أن أتشهد الشهادتين أمام القاضي، وهذا ما لم يقبله عقلي وضميري لأنني مسلم ولم أرتدّ، ولم تسمح لي كرامتي بالخضوع لهذا الابتزاز الرخيص، بل صممت على المضي في محاربة هؤلاء، وإن كثرت الذئاب حولي، لا سيما أنهم أرادوا أن أخضع لديكتاتورية السلطة الدينية}.
حول مغادرته مصر يوضح أبو زيد: {خرجت من بلدي الحبيب، على أثر دعوى أقيمت ضدي وبعد تفريقي عن شريكة حياتي ومحبوبتي د. ابتهال يونس، التي شاركتني أفراحي وأتراحي، لكن لم يتملكها الخوف والمصير الغامض بل جعلتني أزداد قوة وثباتاً في هذه المواجهة، وكنت آنذاك تلقيت دعوة لإلقاء المحاضرات في جامعة ليدن في هولندا}.
في أول محاضرة له نطق أبو زيد بالشهادتين أمام طلابه: {لا أعلم لماذا نطقت بهما، لكنها الشهادة التي أردت أن أقولها بملء إرادتي لا بما يمليه علي المغرضون والمقنعون بنداء الدين العظيم. خشيت من استغلال قضيتي في هولندا، كقضية متمرّد على الإسلام، فقلت لهم: حفاوتكم بي يجب ألا تكون إلا وفق معايير كفاءتي وليس كمضطهد من ديني وبلدي. حاولت بجهدي وبأفكار الدفاع عن ديني وحضارتي التي سلبها المتطرفون}.
دفع هذا الأمر بأبو زيد إلى مواجهة تسليمة نسرين، التي ارتدّت عن الإسلام بسبب الاضطهاد ونعتته بأبشع النعوت، وبعد الانتهاء من إلقاء محاضرتها وقف متسلحاً بحضارة عربية إسلامية عريقة أنجبت فلاسفة ولغويين وأطباء عرفتهم الحضارة الغربية قبل الإسلامية، وطلب منها أن تذكر قصتها ومحنتها، لمعرفة الخلل وتحليل المشكلة، وشرح لها أن ما وقعت فيه بسبب الفقه الإسلامي ورجال الدين لا بسبب الإسلام. استغرب كثر هذا الرد لأنهم كانوا يعتقدون أنه سيشن حملة على هذا الدين، بعد ما مرّ به في مصر.
كانت من بين الحضور في المؤتمر الذي عقد في برلين، شخصيتان دينيتان إسلاميتان، إلا أنهما لم تعلقا على ما جاء في كلام تسليمة، فبادرهما أبو زيد بالسؤال: {لماذا لم تدافعا عن الإسلام؟ أم أنكما تخافان من المواجهة أو من تعريض إقامتكما في برلين للخطر؟}.
وتساءل: {لماذا يخافون دائماً من المواجهة الفكرية مع الآخر؟ هل بسبب ضحالة الفكر الذي يحملونه، أم الخوف من إعمال الفكر الذي قد يكون مدخلاً إلى قضايا كثيرة}.
شاهين في فخ الكفر
كان عبد الصبور شاهين أحد أولئك الذين يستخدمون الوسائل غير الأخلاقية للإيقاع بخصومهم، بهدف الانفراد بسلطة مزيفة عبر سلسلة مؤامرات ضد المفكرين، لكنه وقع في النهاية في الشرك نفسه الذي أوقع فيه أبو زيد، حين ألف كتابه {أبي آدم}، إذ قال إن آدم ليس أبو البشر وأول الخلق. لم تؤخذ القضية على محمل الجد كما أخذت قضية أبو زيد، لكن تخيلوا لو أن مفكراً آخر تكلم أو كتب هذا الكلام، فهل يمرّ مرور الكرام من دون أن يتعرض صاحبه لتهمة الكفر والارتداد؟ إلا أن علماء الأزهر اعتبروا أن كلام شاهين لا يؤدي إلى الإلحاد. في المقابل ثارت ثائرة المثقفين لأنهم وجدوا في الكتاب حجة للنيل من عبد الصبور شاهين.
دعي أبو زيد للردّ على ما حدث لشاهين، إلا أنه أبى إلا أن يدافع عن حرية الرأي والمعتقد سواء كان خصمه شاهين أو غيره. وفي قضية مشابهة، أقيمت دعوى ضد د. أحمد البغدادي وصدر حكم عليه بالسجن لمدة شهر بحجة إهانته للنبي (ص) عندما قال إن الأخير فشل في دعوته في مكة! لكن في المقابل لم نجد أي رد من التيارات الدينية أو دعاتنا في الكويت تجاه الداعية عمرو خالد الذي قال ما لم يقله البغدادي في النبي، وهو موجود على موقع الـ {يوتيوب} بالصوت والصورة. يستدعي هذا الأمر التفكير حول مدى مصداقية هؤلاء الدعاة في الدفاع عن الدين، بل نعتقد غالباً أن سلطتهم تنحصر في من يتعرض لمصالحهم فحسب أو أنهم يعانون من فقدان بوصلة الضمير والعقل.
على مائدة الغداء...
عادت د. ابتهال يونس من الجامعة وتعرفت عن كثب إلى هذه المرأة التي تناضل لأجل الحرية التي تؤمن بها ولأجل حق زوجها في التفكير من دون خوف أو وجل في الأيام المقبلة.
سألتها كيف تعرفت إلى زوجها، وهل كان زواجهما تقليدياً أم ثمرة قصة حب عاصفة؟ فأجابت: {بل قصة حب استمرت ثلاث سنوات بسبب رفض أهلي زواجنا، ألا أننا ناضلنا لإتمام هذا الرباط المقدس}.
انصرفت الزوجان لإعداد الغداء. حول المائدة تحدثت د. ابتهال عن حبها وعشقها لآل البيت وللسيدة زينب وسيدنا الحسين، حب عرفان جميل ليس فيه أي مغالاة.
بعد ذلك أعدّ أبو زيد الشاي، ثم تحدثنا حول مشروعه المقبل {تفسير القرآن الكريم}. أوضح أنه بدأ بهذا التفسير بطريقة حديثة وجديدة ومختلفة عن التفسيرات الآخرى.
قدمت له درعاً تذكارية من مركز الحوار والثقافة {تنوير}، بوم كويتي مذهب، ومجموعة من إصدارات المركز وكتاب {معجم القراءات القرآنية} للدكتور أحمد مختار عمر، بناء على طلب أبو زيد بأن أجلبه معي من الكويت.
في نهاية اللقاء عند السابعة مساء ودعت المفكر وزوجته، تاركاً خلفي كآبتي وهمّاً أصابني يوم إبعاده من الكويت.
نقلا عن جريدة الجريدة