سارة قطان وصورة الجسد الطليق:
سارة قطان فتاة مثقفة، تمتهن الرقص فوق خشبة المسرح، حيث سيصبح رقصها أداة تحول بالنسبة للسارد. هو الذي سيوحدهما لتبدأ حكاية الجسد الطليق ورقصاته. يتلقى خليل حركات سارة الراقصة بمزيج من الشهوة والدهشة والألم، يقهره جسدها الطليق، وعبر إيماءته العنيفة سيسحر بها مما دفعه إلى تعقب خطواتها مقتنها أنها هي امرأة المنام 'لطالما رأيتها في المنام، امرأة تشبهها إلى حد التطابق، أو هكذا يهيأ لي الآن' ص9. عبر وسيط امرأة المنام يختار السارد بطلاته ليبحث عن امرأة مؤجلة، هي فيلمه الضائع، الأمر الذي دفعه إلى إنهاء أسئلته ومفاتحة سارة في مشاريعه المؤجلة، هي الأخرى سهلت الطريق عليه 'ربما سيكتمل السيناريو على نحو أفضل بعد المضاجعة، ما رأيك' ص34. رقصة الجسد الساحر هي الوسيط الذي سيجمع السارد بسارة، وهي الأخرى كانت بحاجة إلى رجل يفهم إيماءاتها التعبيرية المجنونة وهي فوق خشبة المسرح.
يصبح اكتشاف جغرافية جسد سارة ملاذا للسارد قصد التحقق من مطابقة امرأة المنام معها، يملأ الفراغات، ويعيد تشكيل جسدها، يكتشف أن هذا الجسد حر وطليق فوق خشبة المسرح فقط، بينما وهي تعيش لذتها تبدو مثل امرأة هشة 'لم تكن تلك المرأة المجنونة نفسها على خشبة المسرح. تلك الفراشة بألف لون ولون. عندما نكون معا، أكاد لا أسمع أنينها. كانت تغمض عينيها بامتنان، وترتعش شفتاها بهدوء، وتهذي بعبارات حميمة' ص77.
يبدو أن جسد سارة يحمل المتناقضات، وبين الحرية والقيد تعيش نصف لذتها، فهي مجنونة في الرقص، تدخل طقسها بشغب، تتناسى الأصوات الحائمة حولها، تسيج عالمها وتحلق بعيدا عن الواقع بإيماءات تعبيرية صارخة. وهذا التقاطع الحاصل في رقصة جسد سارة ولد لنا صورتين، صورة امرأة تحلق عاليا حيث تنتشل جسدها مما هو دنيوي وتمنحه وجودا روحيا، وصورة امرأة تغمض عينيها تاركة جسدها للسارد كي يبحر في مجاهله.
إن صورة جسد سارة لا تكتمل إلا إذا استعدنا صورة جسد زهور، و بينهما تقع امرأة المنام. إذا كانت سارة تتوزع إلى مكونين: حيث يتحرر الجسد وهو يرقص، ويتقيد حينما يرتبط الأمر بالجنس، فإن زهور تتوزع هي الأخرى إلى مكونين، إذ يتحرر جسدها في الجنس، ويتكبل في الرقص، وبتوحد زهور وسارة، تتحقق امرأة المنام، ويتحقق الفيلم المؤجل.
ناريمان وصورة الجسد الشهواني:
إن اكتشاف السارد لجسد زهور المكبل، وجسد سارة الطليق، جعله يفكر في البحث عن جسد ثالث مغاير، جسد مبتذل وشهواني، وهو ما قاده إلى ملهى ليلي حيث سيلتقي بناريمان. وفي الملهى سيكتشف الجسد الشهواني الذي يبحث عنه، امرأة تضع مساحيق ثقيلة، وبصدرها الضخم المكشوف، وعريها الصارخ، وعبر عدسة كاميراته سيسجل حكاية رقصتها، ليكتشف بعدها أن الصورة الشهوانية التي تجتذب العابرين، تختزن آلاما شاسعة.
تحكي ناريمان عن فتاة اسمها عائشة، هي نفسها ناريمان قبل أن تتحول بها الطريق، فتاة بريئة تدرس في الجامعة لتجد نفسها يوما في حضن رجل يمتهن القوادة، يبيع جسدها لمن يدفع أكثر، فقررت التخلص منه، وحينما تخلصت منه، وجدت نفسها تغرق في مستنقع مظلم من الوحل.
إن صورة ناريمان تتوزع إلى عالمين، عالم خارجي مبتذل حيث تعيشه بصخبه ومجونه، وعالمها الداخلي الذي تجلس فيه فتاة قروية اسمها عائشة، ذاك العالم الذي يختزن عذابات تنمو كل يوم، وهو العالم الذي تربطها به صورة فوتوغرافية 'أخاف أن أفقد هذه الصورة فهي الوحيدة التي تربطني بعائشة'. ص85.
إذا كان السارد هو من تعقب جسد زهور وسارة، فإن الأمر يختلف مع ناريمان، إذ عرضت على السارد سريرها لكي يقتنص رقصته، لكنه هرب مفضلا أن يسمع حكايتها، هو يبحث عن الحكاية، وهي تبحث عن جسد حقيقي، يرفض الارتماء في أحضانها، وترفض أن تبوح بأحزانها 'دع أحزاني في صدري' ص127.
بلاغة الجسد:
يبدو أن المهيمنة التي تميز رواية 'زهور وسارة وناريمان' هي الاحتفاء بالجسد ورقصته. الاحتفاء بجماليته وترميم أعطاب الزمن الذي أحدثه فيه. حيث يبدأ برسم تفاصيل الأجساد المختلفة، والبحث عما تختزنه من حكايات لأن الجسد لا يتحقق سوى بمعرفة حكايته المضمرة، وعن طريق الجسد ونتوءاته كشف لنا السارد المرايا المهشمة التي تحتفظ بها كل بطلة من بطلات الفيلم المؤجل.
إن لذة اكتشاف الجسد ورقصته تضمر هي الأخرى إلحاحا قويا في الكشف عن نقاب امرأة المنام التي تسكن مخيال السارد. وعندما تتحقق رقصة الجسد يبحث السارد عن أوجه التمايز والتماثل بين الجسد المتحقق والمؤجل، كل تماثل يدفعه إلى تعميق معرفته، وكل تمايز يدفعه إلى البحث من جديد عن النقص الذي يعتري الجسد، والنقص لا يملأه سوى جسد آخر، فالسارد في رحلة بحث غير منتهية عما هو مؤجل، والمؤجل الذي يتخذه هدفا في حياته لا يكتمل بتاتا.
زهور وسارة وناريمان نساء لكل واحدة منهن قصتها مع الجسد ورقصته. جسد زهور المكبل بالأعراف والإخفاقات والعذابات المتكررة كل ليلة، وجسد سارة قطان الحر الطليق الذي يحلق بحثا عن التخلص من الثقل الدنيوي ومعانقة ما هو روحي، وجسد ناريمان المبتذل الشهواني الذي يبيع تضاريسه لمن يدفع أكثر. ولكل جسد من الأجساد مساره السردي، وكأن الجسد هنا يسير وفق تدرج تصاعدي ليصل إلى درجة العري والمكاشفة. هي رواية تحتفل ببلاغة الجسد ورقصته، وامرأة المنام التي ظلت هاجس السارد نحو تحقيق الفيلم المؤلف، لم تكن سوى لذة تعويضية تجسدت بأشكال مختلفة في أجساد زهور وسارة وناريمان كما ذهب إلى ذلك السارد في نهاية اعترافاته، غير أنه ينتصر لجسد سارة الطليق، وانتصاره لهذا الجسد هو انتصار لنموذج ثقافي يؤمن بالتحرر، ويقع في منطقة وسطى، فما هو بجسد تقليدي مكبل، وما هو بجسد مبتذل 'الآن فقط أكتشف أن لهاثي وراء سارة قطان والتعرف إليها عن كثب، لم يكن حالة اشتهاء فقط، بل محاولة لمشاركتها نجاحها في ذلك العرض. وفي وصف أكثر دقة، لهاث وراء تميمة أو تعويذة، ستفتح أبواب الأمل أمامي، وربما تغرقني في بئر دون قرار' ص137.
زهور وسارة وناريمان: خليل صويلح، ط1/2008، دار الآداب/ بيروت.