(6) أن من المحتمل أن لا يتمكن السوق الحر من توفير سلع عامة (جماعية)
في حال قيامي بأكل تفاحة ما فسوف لن يكون باستطاعتك أن تأكلها حيث يعتبر استهلاك مثل تلك التفاحة استهلاكا تنافسيا. وفي حال قيامي بعرض أحد الأفلام ولا أريد أن يراه أفراد آخرون فانه يتطلب مني أن أقوم بإنفاق المال لبناء جدران عالية لاستبعاد مثل أولئك الأفراد الذين يرفضون الدفع. هناك بعض السلع، والتي يكون استهلاكها غير تنافسي ويكون استبعادها مكلفا، ليس من الممكن إنتاجها وتوفيرها إلى الأسواق بما أن لكل فرد حافز يدفعه لانتظار الآخرين كي يقوموا بتوفيرها. وتتطلب علنية وشهرة وشعبية مثل تلك السلع وجود نص قانوني من الدولة بصفته (أي النص القانوني) يشكل الوسيلة الوحيدة الخاصة بتوفير مثل تلك السلع. وتشتمل مثل تلك السلع ليس فقط على سلع دفاعية وعلى وجود نظام قانوني، بل تشتمل أيضا على التعليم والمواصلات والرعاية الصحية وعلى الكثير من مثل تلك السلع الأخرى. وليس بالمستطاع، على الإطلاق، أن يتم الاعتماد على الأسواق كي تقوم بتوفير وإنتاج مثل تلك السلع نظرا لان الأشخاص الذين يرفضون الدفع سوف يحصلون عليها دون بذل جهد عادي متطاولين بذلك على أولئك الذين يقومون بالدفع، وبما أن كل فرد منهم سيكون راغبا في أن يكون من أولئك الذين يرغبون في الحصول دون جهد عادي، فسوف لن يكون هناك أي فرد يرغب في الدفع. وبناء عليه، ستكون الحكومة وحدها هي القادرة على توفير مثل تلك السلع.
يعتبر المبرر الخاص بتوفير السلع العامة الذي تسوقه الدولة أحد أكثر المناظرات الاقتصادية السيئة التطبيق بشكل عام. وسواء كانت مثل تلك السلع ذات طبيعة تنافسية أو غير تنافسية في استهلاكها، فان ذلك لا يعتبر، في معظم الأحيان، صفة متأصلة في سلعة واحدة معينة بل هي صفة خاصة بحجم مجموعة استهلاكية، أي أنه: قد تكون بركة سباحة معينة غير تنافسية بالنسبة لشخصين إلا أنها قد تكون تنافسية تماما بالنسبة لمجموعة من مائتي شخص. ويمكن تطبيق التكاليف التي يتم تكبدها جراء استبعاد الآخرين عن استخدام مثل تلك السلعة على كافة السلع سواء كانت سلعا خاصة أو عامة: فلو كانت لدي رغبة في أن أبعدك عن أكل تفاحتي، ربما يتطلب ذلك مني أن أقوم باتخاذ إجراء معين لحمايتها كأن أقوم مثلا ببناء سور حولها. وهناك الكثير من السلع لا تكون تنافسية على المستوى الاستهلاكي، كأن تكون مثلا مباراة كرة قدم (والتي في حال مشاهدتك لها فان ذلك لا يعني بالنسبة لي أنني لا أستطيع أن أشاهدها أيضا)، وسوف يتم إنتاج وتوفير مثل تلك السلع فقط لان أصحاب المهن والمشاريع يستثمرون في وسائل تعمل على استبعاد الذين يرفضون الدفع مقابلها.
والى جانب عدم كون علنية وشهرة وشعبية السلع صفة متأصلة بسلعة معينة بحد ذاتها، فان علنية وشهرة شعبية الكثير من السلع هي صفة يتصف بها القرار السياسي الذي يعمل على توفير تلك السلع على أساس عدم الحصرية وحتى عدم التسعير. ففي حال قيام الدولة بتوفير "طرق مواصلات لا قيود عليها"، سيكون من الصعب عليك أن ترى كيف سيتمكن مشروع مؤسسة خاصة أن يوفر "طرق مواصلات بلا قيود"، بمعنى أن يتم من خلالها النقل بلا ثمن، يمكنه أن يقوم بالمنافسة. ومع ذلك، عليك أن تلاحظ بان "الطريق التي لا قيود عليها" هي في الحقيقة غير مجانية بما أنها ممولة من خلال الضرائب (والتي هي على وجه الخصوص شكل مزعج من أشكال استبعاد الآخرين من التمتع)، وان تلاحظ أيضا بان الافتقار إلى وضع الأسعار هو السبب الرئيسي لحدوث أنماط استخدام غير فعالة، كالاختناقات المرورية مثلا، والتي تعكس نقصا في وجود أية آلية يتم بموجبها تخصيص الموارد النادرة (المباعدة في حركة المرور) كي يتم استخدامها استخدامات ذات القيمة الأعلى. وبالفعل، فقد اتجهت النزعة المنتشرة في جميع أنحاء العالم نحو وضع أسعار للطرق والذي سيعمل إلى درجة كبيرة على التقليل من المناظرات التي تدور حول السلع العامة بالنسبة لقيام الدولة بتوفير الطرق.
وهناك الكثير من السلع، والتي يكون من المستحيل إدعائيا أن يتم تقديمها إلى الأسواق، قد جرى أو سيجري في الوقت الحالي تقديمها من خلال آليات السوق، بدءا من المنارات التي تضيء ليلا إلى التعليم وإلى وضع سياسة خاصة بالمواصلات، وبشكل يوحي بان المناشدات العامة المتعلقة بالعلنية والشهرة والشعبية المزعومة سوف تكون بدون مبرر أو أنها ستكون، على اقل تقدير، مبالغا فيها.
ومن بين أشكال المناظرات الشائعة التي تدور حول وجود سلع معينة والتي تكون، بشكل إدعائي، قابلة للإنتاج والتقديم فقط من خلال إجراء تقوم به الدولة، هناك "الآثار الخارجية" (وتعني أية آثار غير مرئية كالتي تنجم مثلا عن تكاليف تلوث بيئي أو عن منافع تحسن بيئي) التي لا يتم إدخالها في الأسعار من خلال آلية أسعار. وهكذا، فان التعليم الذي سيتم نشره سوف يعمل على إستحداث منافع عمومية اكثر من المنافع الخصوصية التي سينتفع بها الأشخاص الذين يتم تعليمهم والذي يعطي الدولة وبشكل إدعائي المبرر الكافي لتقوم بتوفير وتمويل مثل هذه الأشياء من خلال الإيرادات الضريبية العامة. ولكن، بالرغم من المنافع التي ستعود على الآخرين والتي قد تكون كبيرة أو صغيرة، فان المنافع التي ستنفع الأفراد المتعلمين سوف تكون كبيرة جدا بالنسبة لهم إلى درجة أنها (أي المنافع) ستعمل على الحفز على إجراء استثمارات كافية في مجال التعليم. ولا تقوم المنافع العامة دائما باستحداث ردة يرتد بها أولئك الأفراد الذين يريدون الحصول على المنافع بدون جهد. وفي واقع الأمر، حسبما أثبته عدد وافر من الأبحاث في الوقت الحالي، فان الدول التي تقوم باحتكار التعليم سوف تخفق في اغلب الأحيان في تقديمه بالنسبة لأفقر الفقراء من الناس الذين هم، بالرغم من ذلك، على وعي وفهم بالمنافع التي ستعود عليهم بفضل التعليم ويدخرون أموالا بنسب مئوية كبيرة من الإيرادات الشحيحة التي تدخل عليهم في سبيل تعليم أولادهم. ومهما كانت الآثار الخارجية التي من الجائز أن يتم استحداثها بفضل تعليم أولادهم فإنها سوف لن توقفهم عن الدفع من أموالهم الخاصة بهم بغرض تدبير أمر التعليم بالنسبة لأولادهم.
وفي النهاية، من الواجب أن يتم التذكر بان كل مناظرة تزعم، من الناحية الافتراضية، بوجود استحالة من ناحية إنتاج وتوفير سلع عامة فعالة من خلال السوق سوف تنطبق (أي المناظرة) أيضا على وجود احتمالية من ناحية إنتاج وتوفير سلع عامة من خلال الدولة والتي تكون على اقل تقدير بمستوى متساو من الفعالية، وقد تكون في كثير من الحالات ذات فعالية أكثر قوة. ويعتبر وجود وتشغيل دولة عادلة خاضعة للقانون بحد ذاته سلعة عامة، أي أن يكون استهلاك منافع تلك الدولة غير تنافسي (على اقل تقدير بين مواطنيها) وسوف يكون مكلفا عليها أن تقوم باستبعاد أولئك الذين لا يسهمون في الحفاظ عليها من التمتع بمنافعها (كالناخبين المطلعين). أما الحوافز التي تدفع السياسيين والمقترعين على إتاحة حكومة عادلة وفعالة فهي ليست بالحوافز المثيرة جدا للإعجاب والتي سيتم بكل تأكيد وضعها في المنزلة التي تلي الحوافز التي تدفع أصحاب المهن والمشاريع والمستهلكين على تدبير وتوفير سلع عامة من خلال التعاون داخل السوق. وهذا لا يعني أن لا يكون للدولة أي دور على الإطلاق تبذله في سبيل توفير سلع عامة بل أن عليها أن تجعل مواطنيها اقل رغبة في تخلي الدولة عن مسؤولياتها الأخرى تجاه تقديم السلع والخدمات. وفي حقيقة الأمر، كلما زادت المسؤوليات التي تقع على كاهل الدولة كلما كان من المرجح أن تقل قدرتها على تقديم تلك السلع العامة كالدفاع عن حقوق مواطنيها ضد الانتهاكات، والتي قد تكون لديها منافع خاصة في ذلك.
(7) أن السوق الحر لا ينجح ولا يكون له مفعول عند وجود آثار خارجية سالبة أو موجبة
تعمل الأسواق وتكون فعالة فقط عندما يتحمل أولئك الأفراد الذين يصدرون القرارات جميع الآثار التي تترتب على الإجراء الذين يقومون هم باتخاذه. ففي حال تلقي الأفراد "منافع موجبة" دون أن يسهموا في توفير مثل تلك المنافع، فان الأسواق سوف تفشل في توفير المقادير الصحيحة لها. وبطريقة مماثلة، عندما يتلقى الأفراد "منافع سالبة"، أي عندما يصيبهم الضرر ولم يتم أخذ مثل تلك التكاليف بعين الاعتبار في القرار الذي يصدر بخصوص توفير أو إنتاج مثل تلك السلع، فستقوم الأسواق بتقديم المنفعة والفائدة إلى بعض الأفراد على حساب أفراد آخرين بما أن منافع الإجراء الذي تم اتخاذه قد ذهبت إلى أفراد طرف واحد من الطرفين وتم تحمل تكاليف الإجراء من قبل أفراد الطرف الآخر.
إن مجرد وجود أثر من الآثار الخارجية لا يشكل حجة لكي تقوم الدولة بتولي مهام بعض الأنشطة أو بان تحل محل الخيارات الخاصة بالقطاع الخاص. فملابس الأزياء الحديثة والهندام الجميل سوف تعمل على استحداث عدد وفير من الآثار الخارجية الموجبة مثل قيام الآخرين بإبداء إعجابهم تجاه أولئك الذين سوف يرتدون مثل تلك الملابس الجميلة، ولكن ذلك الأثر لا يشكل سببا يستلزم التحول عن الخيار الخاص بالملابس وبالهندمة أو الخاص بتوفيرهما وبإنتاجهما بحيث تتولاهما الدولة. وهناك أعمال أخرى كالبستنة الزراعية والهندسة المعمارية والنشاطات الأخرى الكبيرة العدد تعمل كلها على استحداث آثار خارجية موجبة تجاه الآخرين ولكن الناس هم الذين يتولون تلك الأعمال كتجميل حدائقهم ومبانيهم ووفق نفس الطريقة ذاتها. وفي كافة الأحوال التي مر ذكرها، ستكون المنافع التي تعود بالنفع على مقدميها وحدهم كافية كي تحثهم على إنتاج وتوفير مثل تلك السلع ويشمل ذلك استحسان أولئك الأفراد الذين تنغدق عليهم الآثار الخارجية الموجبة. وهناك حالات أخرى كحالة توفير محطات بث إذاعي وتلفزيوني تكون سلعتها العامة "مرتبطة" بتقديم سلع أخرى كوجود إعلانات خاصة بشركات ووجود تنوع خاص بآليات إنتاج سلع عامة بحيث يكون تنوعا كبيرا بحجم براعة وإبداع أصحاب المهن والمشاريع المنتجين لها.
ومن ناحية أخرى، وهي اكثر شيوعا، فان ما يقود الأفراد إلى معارضة آليات السوق هو وجود آثار خارجية سالبة. ومن بين الأمثلة على ذلك وأكثرها انتشارا هو التلوث. فإذا كان باستطاعة أحد الأشخاص المنتجين أن يقدم منتجات بحيث تكون مربحة له عند قيامه بفرض تكاليف إنتاجه على آخرين لم يوافقوا على أن يكونوا طرفا في عملية الإنتاج تلك، ولتكن تلك التكاليف على سبيل الافتراض ناجمة عن إلقائه كميات ضخمة من دخان مصنعه أو بسبب إلقائه مواد كيميائية في مياه أحد الأنهار، فان مثل ذلك الشخص المنتج سيقوم على الأرجح بتنفيذ ذلك. أما أولئك الذين سوف يتنفسون الهواء الملوث أو سوف يشربون الماء المسمم فهم الذين سوف يتحملون تكاليف إنتاج تلك المنتجات بينما سيقوم ذلك الشخص المنتج بتحصيل تلك المنافع من بيعه لتلك المنتجات. فالمشكلة إذن في مثل تلك الحالات لا تتمثل في إخفاق الأسواق بل إنها تتمثل في غيابها. فالأسواق تستند إلى حقوق الملكية وليس بمقدور الأسواق أن تقوم بأداء وظيفتها عندما لا يتم تحديد أو تطبيق حقوق الملكية. فقضايا التلوث هي قضايا لا تدل على وجه الدقة على إخفاق السوق بل هي تدل على إخفاق الحكومة في تحديد حقوق ملكية الآخرين وفي الدفاع عنها كحقوق أولئك الذين سوف يتنفسون الهواء الملوث أو سوف يشربون المياه الملوثة. وعندما يكون للناس الذين يسكنون في مهب رياح أو على مجرى مياه الحق في الدفاع عن حقوقهم فان باستطاعتهم تأكيد حقوقهم وإيقاف الملوثين عن القيام بأعمال التلويث. ويستطيع مقدم أو منتج السلعة أن يقوم بتركيب، وعلى نفقته الخاصة، معدات أو تقنية تعمل على التخلص من ذلك التلوث (أو أن يتم خفضه بحيث يصل إلى مستويات يمكن تحملها أو تكون غير ضارة) أو أن يعرض دفع أموال إلى أولئك الناس الذين يقطنون في مهب الرياح أو على مجرى المياه مقابل حقوق استخدام مواردهم (وربما يقوم بالعرض عليهم أن يعيشوا في مكان افضل) أو أن يتوجب عليه أن يتوقف عن إنتاج مثل تلك المنتجات نظرا لان تكاليفها الإجمالية سوف تفوق منافعها. فحقوق الملكية هي التي تجعل مثل تلك الحسابات ممكنة وقابلة للحدوث وهي التي تحث الأفراد على الأخذ بعين الاعتبار آثار أعمالهم على الأفراد الآخرين. كما أن الأسواق، والتي تعني فرصة الدخول في التبادل الحر للحقوق، هي التي تتيح لكافة الأطراف المتعددة أن يقوموا بحساب تكاليف أعمالهم.
ولا تشكل الآثار الخارجية السالبة كتلوث الهواء والماء دلالة تشير إلى إخفاق السوق بل هي دلالة تشير إلى إخفاق الحكومة في تحديد حقوق الملكية وفي الدفاع عنها والتي تستند إليها الأسواق.