المصدر : كلمة المحرر
التاريخ : 2010-11-06
> صحيح أن خمسة شهور مرّت على حادث «أسطول الحرّيّة»، لكن المارد التركي لم يصمت، وهو الذي عودّنا في عهد رئيس حكومته المحبوب عربياً، بأن الحق لا يضيع ما دام خلفه مطالب. ففي موقف متجدّد، لا شك في أنه سيؤرق إسرائيل، نشر مجلس الأمن القومي التركي «الكتاب الأحمر» الذي يصدر مرة كل خمسة أعوام، عن مجلس الأمن التركي بزعامة الرئيس عبد الله غول، وبمشاركة رئيس الحكومة رجب طيّب أردوغان وقادة أمنيّين أتراك.
يفيد «الكتاب الأحمر» بأن «سياسة إسرائيل تؤدّي إلى انعدام الاستقرار في المنطقة وإلى سباق تسلّح». ولذلك، فإنها تشكّل تهديداً استراتيجياً للمصالح التركية. واللافت أن القرار هذا اتّخذته الحكومة التركية قبل أشهر، لكنه بقي سرّيّاً حتى الآن، وحتى أدرجه مجلس الأمن القومي في «الدستور السرّي». وما سيزعج إسرائيل هو أنّ النسخة الجديدة من «الكتاب الأحمر»، أزالت سورية وإيران وجورجيا وبلغاريا وأرمينيا وحتى اليونان من لائحة الدول المهدّدة لاستقرار تركيا ومنطقة الشرق الأوسط، ولو أنّ عبارة «يجب أن يكون الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي» بقيت واردة في النصّ. وهي تطاول إسرائيل تماماً كما تطاول إيران.
إخراج سورية وإيران، ولو جزئياً، من دائرة التهديدات، واستبدالهما بإسرائيل، يظهر مدى التحوُّل الاستراتيجي في السياسة التركية، مما يعني أنه سيكون لذلك تداعيات على مستوى المنطقة. فأنقرة، اللاعب المهمّ في الشرق الأوسط، والتي تقف في حلف الممانعة وحلف المعتدلين العرب، تخلّت عن شعارها السابق المنادي الى ضرورة التصالح مع إسرائيل، وهي تطالب إسرائيل باعتذار رسمي وبتعويض عن ضحايا جريمة «أسطول الحرّيّة».
وهكذا، بات منطقياً توقّع المزيد من التوتّر مع تل أبيب، وتراجع إضافي في التعاون الثنائي بينهما على كل الصُّعُد، الأمنيّة والاستخبارية والتجارية والتسلّح، في مقابل مزيد من التقارب مع سورية وإيران وحلفائهما في لبنان والأراضي الفلسطينية. لم يتّضح بعد تأثير هذا التصنيف الجديد في العقيدة القتالية للجيش التركي، لكن بوادره ستتجلّى سريعاً.
وهذه أول مرّة تعمد فيها الحكومة المدنيّة، لا العسكر كما سرت العادة منذ أن وُضع هذا «الكتاب» في حقبة الحرب الباردة، الى وضع «الكتاب الأحمر» الذي يُعاد النظر فيه كل خمسة أعوام، وبعدما أصبحت تركيا عضواً في حلف شماليّ الأطلسي في العام 1952.
كما أنها أول مرّة في سيرة العلاقات التركية ـ الإسرائيلية منذ العام 1949، التي تُذكَر فيها إسرائيل كتهديد خارجي بالنسبة إلى تركيا. وأكثر ما كان لافتاً هو أن هذا التصنيف لم يُربَط بجريمة «أسطول الحرّيّة»، بل بمسألة أخطر من موقعة «مرمرة»، وهي السياسات العبرية التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط، وتشجّع على انطلاق سباق تسلّح في المنطقة.
والاعلان التركي ليس هدفه انتخابياً كما تدّعي إسرائيل، وإنما يبيّـن أن القوّة الإقليمية الصاعدة في المنطقة، تركيا، تمهل ولا تهمل. فحزب العدالة والتنمية الحاكم ليس بحاجة الى دعاية انتخابية، خصوصاً وأن شعبيّته واسعة في الداخل كما في الخارج.
والتغييرات الكبيرة في الوثيقة السارية المفعول تتضمّن تلخيصاً للتهديدات التي تتعرّض الدولة لها. ويشكّل هذا تغيّراً نوعياً، لأن هذه هي أول مرّة تؤكّد فيها تركيا منذ إقامة علاقاتها مع إسرائيل، بأنها تشكّل تهديداً استراتيجياً لها. وأكّدت الوثيقة أن ما تقوم به إسرائيل قد يدفع بدول المنطقة الى البدء بسباق تسلّح.
ولا تعتبر وثيقة مجلس الأمن التركي «مجرّد تصريح آخر يطلقه رئيس حكومة أو جهات سياسية، وإنما هذه صيغة ملزمة بالنسبة لأجهزة الأمن». إذ تشهد العلاقات بين تركيا وإسرائيل، الحليفين الاستراتيجيين السابقين، توتّراً شديداً منذ الهجوم الذي شنّته إسرائيل على قطاع غزّة.
وزاد تدهور هذه العلاقات بعد مهاجمة البحريّة الإسرائيلية في 31 أيار (مايو) الفائت سفينة تركية، كانت في عداد قافلة مساعدات إنسانية تحاول كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزّة، ما أدّى الى مقتل تسعة ناشطين أتراك. ولم تعتذر إسرائيل عن قتلها أتراكاً كانوا على متن قافلة المساعدات، وهي ترفض دفع التعويضات لعائلات الضحايا من النشطاء، مما عزّز مشاعر الريبة من السياسة الإسرائيلية في المنطقة.
ويأتي التعريف التركي الجديد لما كان يعتبر حليفاً استراتيجياً، بناء على التهديدات التي تصدر بين حين وآخر بشأن مهاجمة إيران وسياسة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في القدس، والجمود في المفاوضات مع الفلسطينيين والتخوّف من هجوم إسرائيلي على لبنان.
والتعريف الجديد هذا يعيق أيضاً التعاون العسكري المشترك بين الطرفين.
وأخيراً يبقى الأمر الأبرز: معرفة ما سينتج من هذه الاستراتيجية التركية الجديدة على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة التي بقيت ضمن مستوى المعقول رغم كل ما حصل على خط أنقرة ـ تل أبيب؟! >
نقلا عن مجلة المشاهد السياسي