الحجاج بن يوسف الثقفى
نبذة عن حياته
هو الحجاج بن يوسف الثقفي سياسي أموي وقائد عسكري، من الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الإسلامي والعربي، عُرف بـ (المبير) أي المبيد. وخطيب بليغ. لعب دوراً كبيراً في تثبيت أركان الدولة الأموية، سير الفتوح، خطط المدن، و بنى مدينة واسط . وأختلط في المخيلة الشعبية بروايات مبالغ فيها تدل على ميراث الرعب الهائل الذي خلفه.
ولاية الحجاج على الحجاز
بعد أن انتصر الحجاج في حربه على ابن الزبير، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة والحجاز كله، فكرهه أهل مكة. وكان وإياهم وأهل المدينة على خلاف كبير، في 75 هـ حج عبدالملك بن مروان ، وخطب على منبر النبي ، فعزل الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات فيه ، وأقره على العراق .
ولاية الحجاج على العراق
دامت ولاية الحجاج على العراق عشرين عاماً، وفيها مات. وكانت العراق عراقين، عراق البصرة وعراق الكوفة، فنزل الحجاج بالكوفة، وكان قد أرسل من أمر الناس بالاجتماع في المسجد، ثم دخل المسجد ملثماًً بعمامة حمراء، وأعتلى المنبر فجلس وأصبعه على فمه ناظراً إلى المجتمعين في المسجد فلما ضجوا من سكوته خلع عمامته فجأة و قال خطبته المشهورة التي بدأها بقول :
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
ومنها:
أما و الله فإني لأحمل الشر بثقله و أحذوه بنعله و أجزيه بمثله ، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ، وإني لصاحبها ، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. ثم قال : والله يا أهل العراق ، إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه ، فعجم عيدانها عوداً عوداً ، فوجدني أمرّها عودا ً، وأشدها مكسرا ً، فوجهني إليكم ، ورماكم بي . يا أهل العراق ، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق ، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة ، واضطجعتم في مناخ الضلال ، وسننتم سنن العي ، وأيم الله لألحونكم لحو العود ، ولأقرعنكم قرع المروة ، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ، إني والله لا أحلق إلا فريت ، ولا أعد إلا وفيت ، إياي وهذه الزرافات ، وقال وما يقول ، وكان وما يكون ، وما أنتم وذاك؟. يا أهل العراق! إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ، فكفرتم بأنعم الله ، فأتاها وعيد القرى من ربها ، فاستوسقوا واعتدلوا، ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار والإبذار والأهذار، ولا مع ذلك النفار والفرار، إنما هو انتضاء هذا السيف ، ثم لا يغمد في الشتاء والصيف ، حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم ، ويقيم له أودكم، وصغركم ، ثم إني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وإشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، وقد أمرت لكم بذلك، وأجلتكم ثلاثة أيام، وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به، ويستوفيه مني، لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه. ولينهبن ماله. ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يا أهل الشام! أنتم البطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأزفر، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: "ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" والتفت إلى أهل العراق فقال: لريحكم أنتن من ريح الأبخر، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار". اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام: فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، فسكتوا فقال الحجاج من فوق المنبر: "أسكت يا غلام"، فسكت، فقال:" يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق ومساوئ الأخلاق. يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون السلام؟ هذا أدب ابن أبيه؟ والله لئن بقيت لكم لأؤدبنكم أدباً سوى أدب ابن أبيه، ولتستقيمن لي أو لأجعلن لكل امرئ منكم في جسده وفي نفسه شغلاً، اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام"، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم فلما بلغ إلى موضع السلام صاحوا وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته، فأنهاه ودخل قصر الإمارة ." .
أسلوب الحجاج بن يوسف الثقفى فى خطبته إلى أهل العراق :
الحجاج من أشهر الخطباء الذين تميزوا بأسلوب خاص في خطابتهم، فهو يختار الألفاظ الغريبة المجلجلة التي تملأ الفم وتترك رنة قوية في أذن المستمع، وهذه الألفاظ هي (جلا، طلاّع، قطافها، يقعقع، فعجم، واضطجعتم).
وأما التراكيب التي تنتظم فيها هذه الألفاظ فهي تراكيب قوية متينة حسنة النظام، وحسن نظام التراكيب نجده في مثل قوله: (إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها) .
وأما قوة التراكيب ومتانتها فتظهر في خلوها من الحشو، فالتركيب ممتلئ بالألفاظ الجيدة المنظمة، فقوله: (فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة) تركيبان لا نجد فيهما كلمة نابية عن مكانها أو غير مؤتلفة مع الكلمات الأخرى.
والحجاج عربي فصيح يخاطب عرباً فصحاء ولذلك فإنه لا يراعي ظهور المعنى وانكشافه بسرعة وإنما يورد بعض العبارات التي تحتاج إلى تأن في فهمها ؛ فهو يعتمد على المجاز كما في قوله : (إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ) وقوله: (ولقد فررت عن ذكاء). وقد ساهم الخيال في صنع أسلوب خلاب يبرز أحياناً في صورة استعارة وأحياناً في صورة تشبيه.
والأسلوب هنا بعيد عن اللباقة وهو أسلوب واضح وملائم للحالة التي يعيشها العراق في ذلك الوقت، فالحجاج في منتهى الصراحة عندما قال (وحان قطافها) (وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى). (والله لأحزمنكم حزم السلمة) وبما أن المقام مقام حزم فقد استخدم الحجاج المؤكدات بكثرة كما في قوله: (إني لأرى رؤوساً) (وإني لصاحبها) (إني والله) (وإن أمير المؤمنين)، وقوله (قد أينعت) (ولقد فررت) وقوله: (والله لأحزمنكم حزم السلمة) فنلاحظ أنه استخدم (إن) و (قد) و (القسم).
ومن خلال تتبعنا لألفاظ هذا النص وتراكيبه وخياله نجد أن الخطيب قد صنع أسلوباً تتوافر فيه كل مقومات الأسلوب المتين القوي.
وبين في خطبته أيضاً سياسته الشديدة، وبين فيها شخصيته، كما ألقى بها الرعب في قلوب أهل العراق. ومن العراق حكم الحجاج الجزيرة العربية، فكانت اليمن والبحرين والحجاز، وكذلك خراسان من المشرق تتبعه ، فقاتل الخوارج ، والثائرين على الدولة الأموية في معارك كثيرة ، فكانت له الغلبة عليهم في كل الحروب ، وبنى واسط، فجعلها عاصمته .
رأي العلماء فيه
* قال الإمام الذهبي فيه : كان ظلوماً، جباراً خبيثاً سفاكاً للدماء وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة،وتعظيم للقرآن... إلى ان قال: فنسبهُ ولا نحبه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الايمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبهِ، وأمره إلى الله وله توحيد في الجٌملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة الامراء .
* قال ابن كثير فيه : كان فيه شهامة عظيمة وفي سيفه رهق(الهلاك والظلم) ، وكان يغضب غضب الملوك... وقال أيضا ً: وكان جباراً عنيداً مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة ، وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها ، وإلا فهو باق في عهدتها ولكن يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه... ، وكان يكثر تلاوه القرآن ويتجنب المحارم .
وصف تاريخي
كان الحجاج بن يوسف بليغاً فصيحاً، محباً للشعر كثير الاستشهاد به، تقياً ، مُعظماً للقرآن و آياته ، كريماً ، شجاعاً ، وله مقحمات عظام وأخبار مهولة .
مذهبه في الحكم
كان الحجاج يرى بتكفير الخارج على السلطان، و طرده من الملة ، لذلك كان يرى ما يفعله تقرباً لله يرجو به الأجر. وهذا يفسر ما يظنه البعض تناقضاً في فعل الحجاج في قتل الناس وبين أعمال الخير التي قام بها كالفتوحات وتعظيم القرآن وتنظيم أمور المسلمين.
قيل بعد موته أن رجلاً رفض الصلاة خلف إمام من الخوارج ، فقال له أحد أئمة البصرة : إنما تصلي لله ليس له ، وإنما كنا نصلي خلف الحروري الأزرقي. قال: ومن ذاك ؟ قال : الحجاج بن يوسف، فإنك إن خالفته سماك كافراً وأخرجك من الملة ، فذاك مذهب الحرورية الأزارقة .
فبينما الخوارج مذهبهم تكفير الحكام، كان مذهب الحجاج هو تكفير من يخالف أمر الحكام . و بالغ الحجاج في شأن الطاعة ، و قمع همم الناس ، و نفوسهم ، و غاياتهم ، فوافق الأمويين في أعمالهم ، وأذهب بين الناس أن الخلافة اصطفاء من الله ، فلا يجوز الخروج على السلطان ، وأما من خرج فقد حل دمه ، وسُمي كافراً . وشاع مذهب الحجاج في تكفير الخارج على السلطان بعده شيوعاً كبيرا ً، وكان قد ابتدأ قبله، لكنه ثبته . وثبت فكرة الإصطفاء ، والحق الإلهي ، وبالغ في تعظيم السلطان المفدى .
الحجاج في الذاكرة
كان للحجاج الكثير من المواقف ، والحكايات الشهيرة ، والأقوال الفصيحة ، والرسائل ، والخطب ، والتوقيعات ، وله مجموعة أشعار متفرقة . فقصص الحجاج وأخباره كثيرة جداً، وموجودة في كتب التاريخ ، ما يدل على عظم نفوذه ، و لا زالت أقواله باقية إلى اليوم ، ومذهبه في الحكم باق إلى اليوم .
وقيلت فيه الكثير من الأبيات بعد موته ، والتي تذمه ، كما قيل في حياته . كما دخل الحجاج في القصص الشعبي ، والمخيلة الشعبية ، فظهر جشعاً طماعاً خاطف نساء في حكايات ألف ليلة وليلة ، كما صورته المخيلة الشعبية بصور بشعة التي كانت تكتب من قبل الشعوبيين تلك الفترة وتسلط عليهم الحجاج لبدعهم وتحريفهم في الدين الاسلامي .
فلا نكفر الحجاج ، ولا نمدحه ، ولا نسبه ونبغضه في الله بسبب تعديه على بعض حدود الله واحكامه ، وأمره إلى الله .