تعريف / بمعلقة طرفة
على الرغم من حشد الأوصاف والتشبيهات الكبيرة، التي تفنَّن بها طرفة في مقطع طويل تجاوز الأربعين بيتاً، لكي يكشف لنا عن أصالة ناقته. وخصائصها الجسدية الكثيرة، إلا أن هذه الملحمة تكاد تستقطب كل قيمتها في مجموعة الأبيات، التي توصف عادة بالحكمة. وهي أعمق ما قاله شاعر جاهلي، وكشف فيها عن موقف ميتافيزيقي إطلاقي.
وهي الأبيات التي يخاطب فيها الشاعر زاجره عن التمتع بملذات الحياة. فلا يجد ثمة معنى للعيش إلا بثلاث وسائل: هي الفروسية، والخمرة، والمرأة. ومن هنا يبرز الموقف الوجودي للشاعر مليئاً، عنيفاً بالتحدي للموت والزوال. مسرفاً في ذلك التيار الحيوي الشاب المرح واليائس معاً، الذي ميَّز جيل الشعراء الشباب في العصر الجاهلي، كامرئ القيس، وتأبط شراً، والشَّنْفَري، والأعشى في بعض مذاهبه، والنابغة في جانبه الحي التلقائي. ومن الغريب أن تنبض تلك الأفكار، وتشع من جوهر هذا الفتى، وهو ما عاش إلا القليل، ولكنه عاش العريض المليء من التمتع والمعاناة.
فلا يبدو طرفة، ذلك الفتى المنحل، بقدر ما يصدر عن رأي شامل في الحياة، وفي طريقة معاشها وأخذها. ولذلك اختار لنفسه طريق الغوص على لذائذها. لا حُباً وتأليهاً لها، بقدر ما هو نوع من تحقيق اتحاد الوعي بالأرض والدم والحرارة الخلاقة المبدعة، ويتصاعد هذا الموقف أولاً من الفروسية المباشرة فهو الفارس المستعد، ما أن ينادي المنادي للوغى حتى يلبيه! وبالطرف الآخر، فإنه أيضاً هو ذلك المتذوّق المتمتع، المستعد لنداء الساقي في الحوانيت، فالسيف والكأس صنوان لا تمييز بينهما، وحياة الجد قرينة لحياة اللهو، شرط ألا يكون اللهو هرباً من واجب البطولة الأول.
وما أن يصف ترنّمه بترجيع النغم من القَيْنَة، حتى ينبري إلى إطلاق تقييم عام لموقفه ذاك، فلا يتورع عن الاعتراف بانغماره في تشراب الخمور، وإنفاقه المال مثلما يحرص البخيل على جمعه وكنزه. وكان ذاك سبباً لغضبة قومه عليه، وطرده من حياضهم، وهو كذلك، متألّم، لكنه لا يرفض العقاب ولا يقبله، لأن طرفة وضع نفسه في مذهب آخر للحياة. يتمرّد على مقاييس المذهب المتوارث المحفوظ لدى مجتمعه. وعند ذلك يُطلق كلمته الكبرى في تلك الأبيات الثلاثة الشهيرة (ألا أيهذا الزاجري، احضر الوغى..الخ)، وفيها يقول : إنه متى ما تم له استنفاد حياته بتلك السبل الثلاثة: الفروسية، وتساقي الخمرة، ومعايشة المرأة، فإنه لن يُسلّم للقبر إلا العظم والجلد، ولن يحفل أبداً متى قام عوّده.
وهكذا فقد نظر طرفة إلى الحياة، وكأنها الفرصة الوحيدة لتحقيق وجود الإنسان، فهولذلك، لن يمنع نفسه الصّادية من الغّرْف من كل مناهلها وينابيعها، بينما قد يعجز الآخر عن ذلك، ويقضي عمره صادياً محروماً.
والبخل في جود النفس، مقترن بالبخل في إنفاق المال. والموقفان يدلان على جفاف الصبوة. وضمور القدرة على الحياة في ذات البخيل. وفي النهاية فإن ذَوّاَقَةَ الحياة، والبخيل منها ولها، متساويان أمام الموت. ولهما قبران متشابهان، كومتان من التراب، وفوقهما صفائح صمَّ لا تنبئ عن شيء سوى العدم والعقم. ولكن طرفة، مع ذلك، يرى أن الموت سبَّاق إلى كرام القوم، بينما هو يُبقي على البخيل وماله إلى حين أطول. ذلك لأن ذوّاقة الحياة، يرى حياته أشبه بالكنز الذي ينبغي عليه أن يتمتع به، فينقص ليلة بعد أخرى. ومع هذا فإنه لا مهرب من الموت بالنسبة إلى كل حي، مهما طال حبل العمر. فثنيتاه أخيراً في يد العدم. هو يقود الإنسان، يمد له، وهو يجذبه إلى مصيره حين تدقُّ ساعته. فكأن الموت هو حاكم الحياة، ولكن الإنسان "المعياش" هو الذي يستطيع مع هذا ألا يُسْلم لهذا الحاكم في النهاية إلا نفايته الأخيرة. وبعد ذلك، فإن تجربة الشاعر في جفوة قومه له، وفي حسد ابن عمه، وفي لومه على تفريطه بالنّوق التي عُهد إليه بها، كل ذلك جعله يروّي آلامه ويشكو الجحود والنكران، بلغة عاطفية رائعة، في الوقت الذي يؤكد فيه على شهامته هو وتبنيه لشرف قومه ودفاعه عنهم حين الملمّات، باللسان والسيف معاً.
ثم ينتهي الشاعر بقرب نهايته، بنوع من الإشراق الداخلي الغريب الذي يعرفه بعض عباقرة الألم والإبداع في بذرة من وجودهم. فلكأن طرفة، شهيد الشباب، ما كان يرى من نهاية مناسبة لحياته الحافلة إلا الموت، بل القتل. ذلك لأن نموذجه هو العنيف، المقبل على اختيار حرية المعاناة بأوسع إقباله على الأرض والدم واللحظة المليئة، وما تخلقه هذه النزعة السلوكية لدى الآخرين، من تَحَدٍّ وميل إلى الانتقام، وقضاء على مثل هذا الفرد المتفوق، فكان أن قتله ملك الحيرة، كما هو معلوم، وأوصى هو ابنة أخيه بأن تنعيه بما هو أهل له، وكيف أن نصيبَه من تقدير الآخرين كان النُّكران والاضطهاد، حتى لم يستطع الرجال أن يعترفوا له بأية ميزة لا في الجرأة ولا الإقدام، ولا الصدق والإخلاص وأصالة المحتد. لقد كان موته إذن مُقدَّراً، وهو شاب مليء بتحدي الآخرين العقيمين، المُقعدين عن طلب العيش العميق الغنيّ. وكان قتله كذلك محتوماً. وفي هذا قال الشاعر بيته الشهير كخاتمة لمأساته الشخصية:
ستبدي لك الأيامُ ما كُنت جاهلاً- وَيَأتيكَ بالأخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزوِّد
اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات محاولين التعرف على الظروف الاجتماعية المحيطة بهم، والأسباب التي دفعتهم لنظمهم هذه المعلقات وعن أي موضوع تتحدث، فقد قال دبليو إى كلوستون عن معلقة طرفة في كتاب من تحريره وتقديمه عن الشعر العربي: يعود سبب نظم المعلقة إلى ضياع إبله وإبل أخيه. قال سي. دو بيرسيفال إن عمرو بن المرتضى، شيخ مدحه طرفة في معلقته قد أرسل إلى طرفة قائلاً إن الله وحده من يمنح الأبناء، لكن في الأمور الأخرى سيعامله كواحد من أبنائه. ثم أرسل الشيخ في طلب أبنائه السبعة وأحفاده الثلاثة وأمر كلاً منهم بتقديم عشرة جمال إلى الشاعر، وبذلك عوض خسارته التي لامه أخوه عليها.
أهم حدث في حياة طرفة القصيرة كان موته المأساوي. أرسل عمرو ملك الحيرة طرفة والمتلمس، شاعر مشهور أيضاً، ليرافقا أخاه الأصغر قابوس، الذي كان يحضره لخلافته. يبدو أن قابوس كان مدمناً على الشراب وكثيراً ما يكون ثملاً. هجاه الشاعران وهجيا الملك أيضاً. غضب عمرو بسبب هذه السخرية فأعطى كل واحد منهما رسالة إلى حاكم البحرين أمره فيها بقتل حاملها. شك المتلمس في نوايا الملك ففتح الرسالة وعرضها على صديق قرأها له. عندما علم بما جاء فيها مزقها ونصح طرفة بالعودة معه. لكن طرفة اعتقد أن قارىء الرسالة قد خدع صديقه فرفض الاستماع إلى النصيحة وأكمل رحلته المميتة. عند تسليم الرسالة قام حاكم البحرين بتنفيذ ما جاء فيها. قطع عمرو يدي ورجلي طرفه ودفنه حياً. كان طرفة في السادسة والعشرين عندما قضى.
وقالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن بلنت عن المعلقة في كتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية القرن العشرين: يعتقد أن هذه المعلقة أكثر انتظاماً في بنيتها من كل المعلقات الأخرى، .. من المؤكد أن مطلع معلقة طرفة انتحال من معلمه العظيم امرؤ القيس ولا يبرر أي جمال فكري خاص أو أسلوب بياني، الحكم على ما تبقى من القصيدة.
يروى أن طرفة كان يملك قطيعاً من الإبل مع أخيه معبد, وكانا يرعيانه بالتناوب. لكن طرفة كان مهملاً ومغرماً بنظم الشعر فلم يقم بمهمته مما أدى إلى شجار يشار إليه في المعلقة. حين لامه معبد قائلاً هل يستطيع شعره إرجاع الإبل إن ضاعت، أجاب طرفة بعناد بنعم ورفض الإصغاء. وكما توقع معبد ضاعت الجمال يوماً في عملية سطو، فذهب طرفة ليثبت صحة ادعائه إلى أصدقائه وأقاربه طالباً المساعدة لاسترجاع الإبل، وكان منهم ابن عمه مالك، الذي وبخه لكسله وحماقته، توبيخ، يقال إنه سبب نظم المعلقة. ويروى أيضاً إن أحداً لم يساعده ولم تستعاد الإبل، لكن طرفة استطاع تنفيذ ما وعد به، إذ أن شيخ قبيلة وهبه مئة جمل عوض الضائعة إثر مدح طرفة له في قصيدة.
في ما يخص تاريخ نظم المعلقة، قد يكون ذلك في العام 550 قبل الميلاد، ويقول البعض إنها كتبت في الأسابيع الأخيرة من حياته عندما كان سجيناً في البحرين، غير أن فحواها لا يدعم هذا الرأي. من الواضح أنها قصيدة شاب يافع يعاني من مشاكله البدوية الصغيرة وشجاره مع أقربائه. ولعها نظمت في الصحراء قبل لقائه عمرو بن هند في الحيرة. الأبيات الوحيدة التي تلمح للبحرين هي التي يقارن هوادج نساء قبيلته بالسفن. لكن هذا بعيد جداً عن الحكم النهائي. من المؤكد لو أنها نظمت في فترة متأخرة أن غضبه كان سينصب على عمرو، الذي ظلمه أكثر من ابن عمه مالك، كونه شاباً طائشاً.
أنظر في ذلك: مطاع صفدي وإيليا حاوي، موسوعة الشعر العربي: الشعر الجاهلي، إشراف د. خليل حاوي، تحقيق وتصحيح أحمد قدامة، بيروت: شركة خياط، 1974، جـ2، ص388-389. وانظر أيضاً ما ترجمه صلاح صلاح في ما يلي:
Blunt, Lady Anne (Translated from the original Arabic) & Blunt, Wilfred Scawen (done into English Verse). The seven golden Odes of Pagan Arabia, known also as the Mo-Allakat. London: The Chiswick press, 1903, PP.9-10. Clouston, W A (edited with introduction and notes). Arabian Poetry and English Readers. London: Darf Publishers Limited,1986, PP. xxxix- xli
المصدر : موقع الوراق