الغزالي: دراسة السنن الكونية أجدى من فروع الفقه
في إحدى خواطره التلفزيونية حول القرآن الكريم التي أذيعت على تلفزيون الجزائر، يقرر الشيخ الغزالي أمرًا مهمًا يتعلق بما يمكن أن نسميه "فقه المستقبل"، حيث يوضح أن لله تبارك وتعالى سننا ثابتة وقوانين خالدة في سير المجتمعات البشرية تشبه السنن والقوانين التي تدور بها الأفلاك، وتتحرك بها المادة، وتضبط بها قوانينها في كل جامد وسائل، تلك هي القوانين التي تجعل مجتمعا يزدهر وآخر يضطرب.
ويتابع: تلك هي السنن التي تجعل حضارة تعلو وأخرى تكبو، هي القوانين التي تجعل أمة تنتصر وأخرى تنهزم، ولا بد أن يعرف الناس هذه القوانين وأن يتحاكموا إليها، أما التجاهل التام لها فلا يفيد، ولا بد أن تثأر تلك القوانين لنفسها بأن ينزل الله الناس على حكمها.
من سنن الله في العالم أن المكر السيئ دائمًا ينقلب على أهله ويصبح وبالا عليهم، فقد كان العرب قديما يتصورون أنهم أمة فيها ذكاء واعتداد بالنفس، حيث صاغ القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً}.
يقول الغزالي رحمه الله: الله هنا يريد أن يقول للعرب: إذا كنتم تفتخرون بأنسابكم وأحسابكم وتعتزون بمعادنكم ومسالككم؛ فإن هذا لا يفيدكم، لأن لي قوانين ثابتة ألزم البشر جميعا عليها وأنتم من البشر، فإذا كنتم ستنكرون وتلعبون، فسينكر بكم وتضيعون، وأما إذا استسلمتم لله وأديتم حقه والتزمتم عهده؛ فإن الله يوفي بعهده لكم.
ويتابع: إذن هذه قوانين لا بد أن تراعى، فدراستها أجدى لأمتنا من دراسات أنواع النجاسة والطهارة، وأنواع الثمن والإجارة، وغير ذلك من عقود وعهود؛ فإن سنن الله الكونية وقوانينه الإلهية التي أثبتها القرآن الكريم أهم، لأنها أدل على معرفة الله وعلى فقه أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله بين عباده.. حسب تعبيره.
ويشير الغزالي إلى أن هذه المعاني قال بها عدد من علماء الأمة قائلا: "هكذا قال الشيخ رشيد رضا في (المنار) ونقل ذلك عن حجة الإسلام الشيخ أبي حامد الغزالي، ونقل ذلك عن سلطان العلماء العز بن عبد السلام، ونحن نلفت أنظار المسلمين في هذا العصر إلى ضرورة أن يدرسوا سنن الله الكونية في الكون، وسننه الحضارية في الحضارات والتاريخ، فإن هذه السنن تعطينا حكمًا نحن أحوج الناس إليها، والحكم الإلهية كثيرة".
الآخرة للمتقين لا المستبدين
ويعدد الغزالي بعد ذلك مجموعة من السنن الإلهية الواجب على الأمة فقهها فيقول: من سنن الله التي يجب أن نفقهها ما جاء في سورة القصص: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، وهذه الآية جاءت تعقيبا على قصتين، الأولى منها تمثل الاستبداد السياسي في مسلك الفرعنة الحاكمة، والثانية تمثل الطغيان الاقتصادي في مسلك القارونية الكاذبة؛ فلا الفرعنة بالحكم ولا الشح بالمال والطغيان به ولا أي مسلك من هذا القبيل، وإن أفلح في الدنيا أول أمره، فلن يبقى عالي الشأن، بل لا بد من الخسف به والإجهاز عليه، ثم الدار الآخرة بعد ذلك هي للمتواضعين وللمنكسرة قلوبهم مع الله، ولمن يفعلون الخير ابتغاء وجهه، ولمن يدخرون عنده ما يلقاهم يوم القيامة نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
ويتابع بنموذج آخر قائلا: "من القوانين الإلهية التي يجب أن نعرفها أيضًا، ما جاء في سورة السجدة، حيث يقول الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، هذه الآية في بني إسرائيل، وهي الآية التي تلاها ابن القيم عندما سئل: أيمَكَّن للإنسان أو الشعب أولا قبل أن يختبر، أم يختبر أولا ثم يمَكَّن له؟، فأجاب: بل يختبر أولا فإذا نجح في الامتحان ومحص البلاء معدنه وخرج من المحنة وهو نقي كان أهلا للقيادة وللسيادة وللصدارة وللإمارة، ثم تلا هذه الآية الكريمة".
ويوضح الغزالي أن إمامة الناس أو الصدارة في الأرض أو قيادة المجتمعات البشرية تحتاج إلى مؤهلات، فهو منصب لا يعتليه أي إنسان أو شعب، بل يحتاج إلى مرشحات ومؤهلات عقلية وخلقية.. حسب قوله.
ويوضح أن القرآن الكريم قد نبه إلى هذا عندما ذكر إمامة إبراهيم للناس، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا..} ويقول الغزالي: "فبعد أن أتم إبراهيم الكلمات، أصبح مؤهلا لنيل الإمامة، ولكن عندما طمح سيدنا إبراهيم في أن تنال ذريته تلك الإمامة، كان الرد الإلهي الحاسم: "لا ينال عهدي الظالمين"، وهذا يعلمنا أن المعاناة لا بد منها لمن يريد الإمامة إن كان فردا أم شعبا من الشعوب..".
حساب الزمن في السنن
ويتحدث الغزالي رحمه الله عن أمر يؤرق كثيرا من العاملين في مجال الإصلاح، حيث الزمان يطول بهم ولا يرون ثمرة عملهم، فيؤكد أن "سنن الله الكونية تحتاج إلى زمن طويل وأن نتيجة التقوى والصبر لا تظهر خلال أيام قلائل ولا شهور معدودة، بل قد تستغرق سنين طويلة، وأن على الأمم والأفراد أن يعلموا أنه مع مر الزمن تتحقق الآمال، وتنفذ الوعود ولكن لا بد من معاناة طويلة، خلال هذه المعاناة تتحقق هذه السنة الإلهية..".
ويستشهد على ذلك بقصة يوسف عليه السلام حينما جاءه إخوته بعد أن تقلب يوسف في أطوار الزمن من ضعف وقوة وحرية ورق، وسجن ومنصب، فجاءه إخوته على حد تعبير الغزالي "متسولون" يقولون له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، فقال لهم: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا} ثم قال يوسف هذا القانون الإلهي: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
ويعقب الغزالي قائلا: "وأجر المحسنين هنا بعد التقوى والصبر لم يبرز إلا بعد عشرات السنين..".
ويختم الغزالي بعرضه لقانون إلهي آخر من سورة محمد: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، فيقول: "هم قد يكونون أذكياء ولكن ذكاءهم يحسب عليهم، الحضارة الأوروبية حضارة ذكية، ولكن بقدر ما تعمر تدمر، ولذلك يقول الله: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، لكن هذا يحتاج أيضا لزمن طويل.
ويتابع: في هذا الزمن الطويل من زرع مرا حصد الشوك ومن زرع فيه فاكهة حصد الجنى الطيب، ولكن لابد من المعاناة.. انتظر من اليوم إلى الغد، وانتظر من الغد إلى بعده، انتظر من الدنيا إلى الآخرة، فإن الله تعالى يريد من عباده ألا يعاملوه بعجلتهم، فإن الحديث يقول: (إن الله لا يعجل بعجلة أحدكم)، فالعجلة لا تعطي شيئًا، ولكن صبر نفسك على قدر الله، وكن رجلا تؤدي ما عليك وكن في شعب يؤدي ما عليه، وبذلك تنتصر الشعوب والأفراد.