يشهد اليمن اليوم أزمة عضوية لا يستطيع أحد التنبؤ بثقة بمآلاتها. و لكن يبقى أن استيعاب الواقع الراهن في اليمن بتعقيداته و امتداداته هي مهمة لا يمكن مقاربتها من دون الإلمام بالمسار التاريخي للمجتمع و الدولة في اليمن، خصوصا ما يتعلق منه بالعقود الثلاثة الأخيرة.
اليمن.. أي مصير؟
و لعل أحد أوجه هذا المسار التاريخي الذي لم يحصل على ما يستحقه من الدراسة و الاستقصاء البحثي هو قصة نشوء واضمحلال “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، و ما يتصل بذلك من قيام الوحدة اليمنية و مصاعبها و التي انفجرت على شكل حرب أهلية في العام 1994 وصولا إلى التحديات الراهنة المتمثلة في تعاظم النزعة الانفصالية في الجنوب والتي بالكاد تخفي رغبتها في استعادة قيام دولة مستقلة في الجنوب، وإن على أسس سياسية و أيديولوجية مختلفة عن الماضي.
يأتي كتاب “اليمن مقسما” ليملأ جزء مهما من هذا الفراغ البحثي، إذ يقوم فيه نويل بريهوني، و هو باحث بريطاني مرموق و صاحب خبرة ديبلوماسية طويلة، بما فيها العمل في عدن في السنوات الأولى من السبعينات، بسرد قصة “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” التي أعلنت في العام 1970، منذ بداياتها المبكرة في نيل الاستقلال من بريطانيا في العام 1967، مرورا بتجسدها آيديولوجيا كمزيج من الفكر القومي الذي ساد في الستينات و السبعينات و الفكر الماركسي- اللينيني بنسخته السوفياتية، و حتى انتهاءها بالوحدة الاندماجية مع الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) .
و يتمحور الكتاب حول ثلاثة موضوعات رئيسة أولها عرض و تحليل التاريخ السياسي لليمن الجنوبي منذ نشؤه كدولة مستقلة في العام 1967 و حتى إنتهاءه رسميا بتدشين الوحدة مع الشمال في العام 1990، و إنتهاءه فعليا بانتصار صنعاء و القوى الجنوبية الموالية لها في الحرب الأهلية في يوليو 1994. و يحفل هذا الجزء من الكتاب بعرض مفصل للأحداث و الشخصيات السياسية و الأيديولوجية التي هيمنت على الجسم السياسي لجمهورية اليمن الديمقراطية و الصراعات المريرة على السلطة في عدن والتي بلغت ذروتها في أحداث العام 1986 سيئة الصيت، و التي كان لها الأثر البالغ في إضعاف “الدولة الماركسية الوحيدة في العالم العربي”، كاشفة بدمويتها المريعة عمق الولاءات القبلية و المناطقية في صنع الهويات السياسية في هذا الجزء من العالم و أولويتها على ما كان ينافح عنه في الاحتفاءات الحزبية و الأبواق الإعلامية الرسمية من انتماءات أيديولوجية و فكرية “حديثة”.
و يتمثل الموضوع الرئيس الثاني للكتاب في استقصاء العوامل البنيوية و البواعث الذاتية التي دفعت قادة اليمن الديمقراطية الى الذهاب نحو خيار الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية، و التي يمكن إجمالها بأزمة إقتصادية حادة و تآكل مضاعف للشرعية على خلفية أحداث 1986، و تداعيات التغييرات التي دشنها انتهاء الحرب الباردة على مجمل تحالفات موسكو الخارجية و من ضمنها العلاقة مع عدن، حيث لم يعد الاتحاد السوفياتي ذلك الحليف الذي يمكن الركون إليه في الملمات.
و بالاضافة الى كل ذلك، لعبت الصراعات الداخلية دورا في دفع بعض القيادات في عدن إلى المراهنة على خيار الوحدة كحل حاسم للأزمات المتفاقمة في الجنوب، و لم يخل الأمر من خداع ذاتي بقدرة الجنوب “المتقدم” نسبة الى الشمال “المتخلف” في الهيمنة على مؤسسات دولة الوحدة، على الرغم من التفاوت الواضح في حجم شطري اليمن. و شكل استكشاف التداعيات المستمرة لمسيرة اليمن الديمقراطية على يمن اليوم الموضوع الرئيس الثالث للكتاب حيث يشير المؤلف إلى إمكانية انبعاث دولة مستقلة في الجنوب كاحتمال لا يمكن تجاهله.
و لقد عزز المؤلف جهده البحثي الرصين بمعلومات ملفتة هي أقرب الى النوادر، مثل تلك التي أفادت أن علي سالم البيض، رئيس اليمن الديمقراطية إبان محادثات الوحدة مع الشمال، هو من اقترح على رئيس اليمن الشمالي علي عبدالله صالح و بصورة مفاجئة و بدون التنسيق مع القيادات السياسية أو الحزبية في عدن خلال رحلة بالسيارة بمفردهما فكرة الوحدة الاندماجية بديلا عن الفديرالية أو الكونفديرالية كما كانت تذهب إليه النقاشات المؤطرة لمباحثات الوحدة بين البلدين في حينه.
و كانت تلك من المفاجئات السارة لعلي عبدالله صالح الذي تلقفها بحس سياسي تكتيكي بارع جاعلا منها مدخلا لوحدة يمنية سيصفها لاحقا البيض نفسه أنها كانت عملية “ضم” للجنوب إلى الشمال.
و تبرز في ثنايا هذا الكتاب المهم مسيرة مدينة عدن كقصة فشل ذريع انحدرت فيها تلك المدينة العريقة بصورة مأساوية من “دبي محتملة” و ثاني أكبر ميناء في العالم في الخمسينات إلى مدينة دون مستوى مدن العالم الثالث في زمننا الراهن، بعد أن فعلت بها مغامرات”ماركسيي” الجنوب و فساد “قبليي” الشمال أفاعيلها، و التي تراوحت من الإهمال سوء الإدارة إلى النهب العشوائي منه و المنظم!
يؤكد المؤلف بموضوعية أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية “توفيت” نتيجة لجراح أغلبها ذاتية المصدر، وكتبت نفسها كدولة مخفقة (فاشلة). و في التحليل النهائي، لم يكن نظامها السياسي متماسكا و قادرا على تجاوز الحقائق الصلبة للمناطقية و القبلية في الشطر الجنوبي من اليمن. و لكن يبقى أن الإرث المستمر لتجربة اليمن الديمقراطية كدولة مستقلة (و ليس كآيديولوجيا راديكالية) يتمثل في صياغة ما يسمى “الشخصية الجنوبية” باعتبارها توجه ثقافي- سياسي يملك اليوم حضورا لايمكن تجاهله و يجد أهم تجسيداته في تيار “الحراك الجنوبي”.
مراجعة: د. أسعد صالح الشملان
معهد الدراسات الدبلوماسية – السعودية