كي لا يذُبح الشعب بالطريقة الفيدرالية
العميد ناصر النوبة
تتردد على مسامعنا هذه الأيام بعض الاتهامات التي توجه إلينا من الداخل والخارج جزافاً بأننا نقف ضد إرادة الشعب الجنوبي لمعارضتنا مشروع الفيدرالية وبالقدر نفسه نعتز بآراء الجنوبيين لأن التعدد في الرأي دلالة على امتلاك شعب الجنوب لثقافة سياسية بناءة لكن للأسف أن من يوجه الاتهام لا يميز بين التباين والاختلاف في الآراء وبين سياسة الإقصاء الموروثة التي تكشف أقنعتهم الزائفة لتقديم التهم الجاهزة ومصادرة إرادة شعب جنوب لأن هذه التهم أصبحت سلوك استعدائي معشعش في رؤوسهم.. إلا أننا رغم ذلك نحترم أراء أخواننا الجنوبيين ومشاريعهم التي قد تكون صائبة أم خاطئة لكننا نظل متمسكين برفضنا القاطع لمشروع الفيدرالية وأن كانت مشروطة لأن رفضنا مبني على أسس منطقية وشواهد حية تمنعنا من أن نشترك أو نساهم مجدداً في ذبح إرادة الشعب الجنوبي على الطريقة الفيدرالية أو أن نعمل على إعادة إنتاج التجارب الفاشلة للوحدة مع الشمال ونشارك في تحويل شعب الجنوب إلى حقل للتجارب السياسية الفاشلة وعندما نقول أننا نرفض هذا الخيار فالموضوع لا يقتصر على رأي شخص فقط ولكن هذا رأي شريحة واسعة وكبيرة من أبناء الجنوب ويرتكز ذلك على العوامل والمؤشرات والملامح التي تبين فشل هذا المشروع في مهده لانعدام الأسس، والظروف المشجعة للتمسك به كخيار وحيد في ظل انفراج الأفق للوضع السياسي للقضية الجنوبية والاهتمام ألأممي والدولي وتوافر الفرص لنيل الاستقلال ، وحتى تكون الرؤية واضحة ولا غبار عليها ووضع النقاط على الحروف، ولكي يتبين الخيط الأبيض من الأسود وبما تملية علينا ثقافتنا وسلوكنا الذي يتميز بقبول الآخر يجب علينا أن نتناول هذا الموضوع الحساس بشفافية وبصدق وأمانة وأن نكون صادقين مع الله أولاً ومع شعبنا وأنفسنا ثانياً، ولهذا لابد من شرح العوامل والظروف القائمة في الشمال وحتى لو افترضنا أن مشروع الفيدرالية هو من انجازات الثورة القائمة في الشمال التي تنظر إلى القضية الجنوبية كموضوع استثنائي وبغموض ودون وضوح الملامح للمعالجة التي يعول عليها بعض أخواننا الجنوبيين (بالفيدرالية) من خلال الوهم والوعود العرقوبيه من بعض قيادات أحزاب المشترك وثورة صنعاء أي بما معناه وما يدل على استدراج الجنوبيين ثانية وقيادتهم الى فخ والى المجهول فإذا كان الأخوة في الشمال صادقين لصدقوا في مواثيقهم (وثيقة العهد والاتفاق) و(المبادرة الخليجية)، وقضايا سياسية أخرى ألتي تؤكد أنهم غير صادقين مع أنفسهم فكيف يمكن لهم الصدق معنا؟ (المرء لا يلدغ من جحر مرتين).
فإذا نظرنا إلى الظروف القائمة في الشمال وامكانية توافقها لتقبل الفيدرالية سنجد أن ما حدث مع الوحدة الاندماجية يتكرر لسبب واحد هو انعدام وجود الدولة المدنية والفرص لإقامتها وهذا ما أفشل المشروع الوحدوي إلى جانب استمرار ونمو العائق الأكبر أمام بناء الدولة (القبيلة) على العكس مما هو قائم في الجنوب، فا الفرصة كانت مواتية لاستمرار الوحدة لوجود مقومات الدولة وانعدام العائق أمام بناء دولة الوحدة أي أن القبيلة في الجنوب أكثر تمدناً وهي مكون اجتماعي فقط على عكس وضع القبيلة في الشمال فهي مكون سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي، تشكل عبء على الدولة وعائق امام بناء الدولة الوحدوية بينما القبيلة في الجنوب هي رديفة ومساهمة في تعزيز الأمن وبناء الدولة وممتثلة للقانون، فالفدرالية التي ينشدها أخواننا في القاهرة تتطلب تغير جذري في الشمال لتهيئة الظروف لإقامة الدولة الفيدرالية الاتحادية وهذا استحاله ان يحصل ، لأن الوضع القائم في الشمال بحاجة إلى ثورة جذرية لتغيير الواقع السائد في الشمال والموروث من حكم الإمام والأسرة.
الكثير كان يعول على أن هذه الثورة هي المطلوبة لإقامة الدولة المدنية وتغيير الواقع السائد لكن أحتوى الأحزاب لها والعوامل والظروف الموضوعية والذاتية جعلتها تعيش أزمة (أزمة الثورة اليمنية) بعد أن تم تحويل هذه الثورة إلى أزمة سياسية وهذا أدى إلى غياب الوضوح في مشروع الحداثة والدولة القادمة التي تهدف لتحقيقها الثورة، كما أن المبادرة الخليجية استهدفت في مضمونها الخفي إجهاض أهداف الثورة التي يتطلع لها أبناء الشمال كونها تشكل أداه لا إعادة إنتاج الحكم الأسري بالمضمون في الدولة قد ربما تحمل شكل مدني وهذا سيقود حتمياً إلى صراع بين الشكل والممضون أي بين متطلبات الشكل ومصالح المضمون ، وإذا استمر احتوائها كازمة سياسية ستؤدي بذلك إلى تأجيل الصراع المؤجل منذ 26 سبتمبر 1962م مروراً بملامح الرفض في منتصف السبعينات عندما حاول الشهيد الحمدي القيام بثورة التصحيح واصطدم بمراكز القوى القبلية وبالطبع هذا سيؤدي في النهاية إلى حرب طاحنه لأن تدني مستوى الوعي الاجتماعي سيسهم في انعدام فرض ثورة تغيير اجتماعية وشعبية اخرى وبالتالي ستتمكن مراكز القوى وأصحاب المصالح من التحكم في مفاصل إدارة المجتمع.
كل هذه العوامل هي التي أدت إلى فشل مشروع الوحدة الاندماجية لأن الجنوب انتقل من الثورة التحررية رغم ما شابها من أخطاءات إلى الثورة الاجتماعية والشعبية ، وإفراز العوامل والشروط لإقامة الدولة المدنية على عكس ما هو موجود في الشمال فمثلاً لا يوجد فرق بين القبلي والمهمش في الحقوق والواجبات في إطار المجتمعات المحلية في الجنوب,أما الشمال فإن المواطنة لها درجات مثلاً قبلي، سيد،قاضي, رعوي، مواطن، .... الخ ، ولذلك متى ما تمت مساواة درجات المواطنة في المجتمعات المحلية في صنعاء يمكن الحد من إمكانية الحرب وإيجاد فرص التغيير والقضاء على ثقافة الفساد ويمكن بناء الدولة المدنية.
اما اذا أخذنا الموضوع من منظور سياسي في حال انتصار الثورة في الشمال ومعالجة الأزمة وفقاً للمبادرة الخليجية سينتهي المطاف بأحزاب المشترك والذي وحدها هدف (إسقاط الرئيس) إلى تفجير الصراع فيما بينها, وهذا حتماً سيؤسس لمرحلة جديدة من الصراع بين أحزاب المشترك سياسياً وأيدلوجياً وستتضارب مصالحهما كما ما تضاربت في أول حكومة ائتلاف بين المؤتمر والإصلاح بعد 94م و ستصطدم تطلعات الشباب مع مصالح ألأحزاب الهرمة التي لا تمتلك برامج تواكب أهداف الثورة المنشودة للشباب أو دولة الفيدرالية الموهوم بها الجنوبيين وهذا بالطبع سيؤدي إلى إعادة إنتاج ثورة شبابية في وجه مراكز القوى السياسية الحزبية والقبلية والجنوبيين يكفيهم ما ذاقوا من الصراعات.
كما أن الفساد بكافة أشكاله ورموزه يشكل معضلة كبرى أمام بناء الدولة الفيدرالية وسيصعب التعامل معه في حين استشراء الفساد المؤسسي هناك ووجد مرتع خصب لنموه فأنهاء الفساد ورموزه هو الضامن الوحيد لإنجاح الثورة وستصطدم أي إجراءات لتحقيق ذلك الهدف مع القوة القبلية وأصحاب المصالح المسيطرين على زمام الثروات ورؤوس الأموال والشركات لأن معظم القوى الاقتصادية والقبلية مصدر إثراءها الفاحش بقاء الدولة الشكلية لذا سيعملون على إعادة إنتاج دولة شكلية تنعدم فيها فرص محاربة الفساد ورموزه بأنواعه السياسي والاقتصادي لأن محاربة الفساد هو استهداف وتدمير لهم ولذلك ستذبح الثورة على درب محاربة الفساد.
أن المشاريع الميتة تلد ميتة وتقود الشعوب إلى المجهول وعلينا أن لا نفوت الفرصة المتاحة في ظل ما أفرزته الوقائع والأحداث المساعدة على المستويين المحلي والدولي لاستمرار نضالنا حتى نيل الاستقلال الناجز وليس بالضرورة أن نعود لمحاولة استنساخ التجارب التي لاتتوفر لها على الواقع الشروط الموضوعية والذاتية في المجتمع الشمالي للدخول معه في دولة فيدرالية اتحادية حتى وإن كانت مشروطة... فلا ينبغي أن ننجر خلف المجهول والسراب الذي قد يدخل الشعب الجنوبي في نفق مظلم وستكون الفيدرالية القبر النهائي لدفن القضية والثورة الجنوبية التي انطلقت في 7/7/2007م ، وبالضرورة أن ننظر إلى العوامل الأخرى التي تحكم على هذا المشروع ليس بالفشل وإنما بتحوله مستقبلاً لانتاج أدوات جديدة تدفن القضية الجنوبية للأبد ولشرعنة الاحتلال الأبدي لأرض وثروة الجنوب، فإذا كان المجتمع الدولي قد فشل في إقناع الشماليين للالتزام بتعهداتهم فيما بينهم فهل سينجح في إقناعهم بالالتزام بالفيدرالية وشروط الديمقراطية وعواملها؟ وهذا من المستحيلات فالشمال أكثر كثافة سكانية وأقل ثروة ومساحة وبالطبع سيدفع الجنوبيين ثمن هذا التوسع والزيادة في السكان على حساب الأجيال القادمة وبهذا نكون قد كرسنا وأسهمنا وفرطنا في إدخال الجنوب في محنة جديدة لا يمكنه الخروج منها مهما كانت الضمانات والتعهدات, والشواهد لا تزال قائمة على توقيع وثيقة العهد والاتفاق لمن لا عهد له وكذا وثيقة التعهد بعد حرب 1994م في الأمم المتحدة من قبل الحكومة اليمنية بعد صدور قراري مجلس الأمن الدولي رقم 924,931.. ألا يكفي شعب الجنوب ما مر به من تجارب!!.
أن الفيدرالية أشبه ما تكون بالمبادرة الخليجية التي احتوت الثورة الشبابية في صنعاء وحولتها من ثورة إلى أزمة سياسية وإذ يحاولون اليوم بالفيدرالية تحويل القضية الجنوبية من قضية سياسية بامتياز إلى قضية بناء الدولة وشكل النظام السياسي, وسيركض الجنوبيين خلف هذا الوهم والسراب لمعالجة القضية الجنوبية وهم لا يملكون الحيل وأساليب الالتواء حتى للتعامل مع الوضع القادم.
أن هذا المولود مصيره الموت فور خروجه إلى النور لأنه لا يلبي تطلعات وطموحات الشعب الجنوبي وليس حلاً جذرياً لمعاناته وقضيته العادلة وإنما إعادة إنتاج الضم والإلحاق بشكل شرعي من قبل أبناء الجنوب... وبالضرورة ستسقط هذه المشاريع كما تتساقط أوراق الخريف لأن الجميع سيلتقون في خط واحد وجبهة واحدة تنادي بالاستقلال... فنرجو من الأخوان الجنوبيين أن لا يحاولوا ذبح الشعب الجنوبي ثانيةً بالفيدرالية فيكفي ما تعرض له من محن... وأن يعودوا إلى جادة الصواب والالتحاق بالمواقف الثابتة كما قال الشاعر علي سعيد لهطل :
ما بتحول شي الحجر من ساسها لا خاب بانيها ولا فيها ميول.
حتى ولا حد راح وابعد مننا لابد ما يرجع لتاريخ الأصول