بعث النبي الهادي ليغير ما كان سائداً في مجتمع غص في الظلم والطغيان والاستبداد والبعد عن سمو ومكارم الأخلاق، حتى وصل الأمر بأن يقتتل الأخوة وأن تراق الدماء دون توقف لأتفه الأمور وأقلها، وأن تفقد المرأة مكانتها الإنسانية لتعامل بأقصى أنواع الظلم لتضع ما في رحمها في حفرة الموت وتحت التراب لأنها لا تستحق الحياة كونها ولدت أنثها لا تأتي إلا بالعار لقومها وعشيرتها، فجاءت بعثت النبي الهادي لتخرج الناس من وحل ذلك الظلام والضلال لترشدهم للنور الهادي للقلوب ومسارها السليم فيعدل حركة الحياة للفرد والمجتمع.
وقد عاني الرسول صلى الله عليه وسلم منذ لحظة بعثته الأولى والبدء بوضع مقومات التغير من أشد أنواع العدوان والصد عن الاستمرار في نهضته وثورته للتغير وتطوير المجتمع وإعادة البناء لكل مقوماته المتكاملة التي لا تنفك واحدة عن الأخرى، فمن أول ما بدأ العمل به عليه الصلاة والسلام تغير الاعتقادات والعادات الفاسدة التي احتلت القلوب والعقول لتسيطر عليها فتجعلها سلوكاً مستمرا في الممارسة ومتوارثاً عبر الأجيال والأقوام يصعب الانفكاك عنه أو التغير.
ومع البدء في عملية التغير لاقى عليه الصلاة والسلام الكثير من المحاربة والمنع من قبل المتعصبين لمبادئ الضلال والفساد، فسلطت عليه الحراب من كل جانب حتى من أقرب الأقربين إليه عليه الصلاة والسلام من قبيلته وقومه وعشيرته ومن عمومته الذين كانوا في نسب معه ومصاهرة، ورغم كل تلك الاعتداءات إلا أن الإصرار على التغير والمقاومة والثورة على الظلم كان يزداد في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
لقد مارس أعداء الحق كل الأساليب التي تصد ثورة الحق عن الاستمرار، فكان تارة بالتهديد وتارة بالترغيب من خلال عرض الأموال والنساء ومتع الدنيا كلها لتوضع بين يديه الشريفتين كي يتخلى عن مسيرته، لكن أنى ذلك وهو من اختاره الله واصطفاه فإن شاء أعطاه ملك السموات والأرض لكنه أثر بنفسه الكريمة ليكون عزيزً مع المستضعفين، وحمل لواء الحق طامعاً بما سيناله من فضل عظيم ورحمة ربه في الدنيا والآخرة.
ولاقى أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الآلام، ودفعوا الكثير من التضحيات، فتخلى الكثير منهم عن أعز ما يملكون من الأموال والأهل والديار مقابل الاستمرار في نشرة دعوة الحق وإعلان ثورة التغير لتقام عليها العدالة الإنسانية، ويتحقق الحق لكل فرد فيها دون إلحاق الظلم بأحد على مستوى الفرد والجماعة، فتعرضوا لكثير من محاولات القتل والأسر والعدوان، فاستشهد الكثير منهم وقدموا أرواحهم وأموالهم في سبيل صدق الدعوة والثبات على التغير.
وفي لحظة أظلمت فيها السبل ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوباً كثيرة تعي ما يقوله ويدعو إليه من الحق المبين، ومع علو الطغيان والظلم وزيادة في الاستبداد، ومع بداية مولد الدعوة ومحاولات التثبيت لبذورها ونشر مبادئ التغير والتطوير في المجتمع، ومع استمرار المكائد والتخطيط ضد القائد والمعلم الأول الذي إن استطاع وقفه بالقتل أو المنع عن الاستمرار في منهجه، عندها سيتمكن من القضاء على الدعوة وإنهاء تلك الثورة وتحقيقهم النصرة لمبادئ الباطل والفساد، ليبقى يعلو قهراً فوق رؤوس المستضعفين ليأكل أموالهم وأرواحهم بغير حق.
وما كان لله أن يترك نبيه ودعوته ورسالته بأن يُقضى عليها بأيدي هؤلاء المبطلين، وهو من رعاه الله وحماه، وجعله على عينه في ليله ونهاره، فيبيت عنده ليطعمه ويسقيه، ويرسل إليه الوحي ليخبره من أمر السماء بما سيكون من أمور الدنيا وكيف يتصرف معها، وهو من أعطاه ربه علم الرؤيا لما سيكون من أمر هذا الدين العظيم، وألقى في قلبه الأمل والفوز العظيم الذي سيُحقق ليبلغ أقصى البقاع وأعظمها.
فجاء الإذن من الله بالرحيل والهجرة من ديار قد أغلقت فيها أبواب التغير والإصلاح لبلاد قد فتحت أبوابها إليه وإلى دعوته والإيمان بمنهجه ومبادئه، فبدأ التدبير والتخطيط للخروج في وسط الليل بعد أن أخذت كل عوامل النجاح والأمن لتلك المهمة في سبيل الحق، ووزعت الأدوار ليأخذ كل واحد من أهل الحرص والإخلاص دوره في إنجاح تلك الهجرة المحمدية الربانية، مع بقاء الأمر سراً لا يعلمه سوى القليل ممن شاركوا في نجاح ذلك الحدث ليزداد الحرص على تثبيت الأمن والسلامة، وبعد أن أدى رسول لله صلى الله عليه وسلم وأمّن على ما بين يديه من أمانات للناس لتصل إلى أصحابها، ووضع مكيدة تصرف عنه الأنظار من قبل من يتربصون على بابه للغدر به والعدوان على روحه وجسده الشريف، رحل رسول الله وصاحبه الخليل أقرب الناس لصحبة قلبه ومحبته "أبا بكر الصديق رضي الله عنه" الصاحب له في كل أمر والأنيس لدربه والمعول الأول المساعد في البناء والنجاح لهذه الدعوة العظيمة.
ومع صعوبة الرحيل وما فيه من معيقات تصد عن الطريق، ومع استمرار المطاردة له من قبل المفسدين الذين وضعوا أعظم المكافآت للقبض عليه أو قتله، إلا أن الأمل والإيجابية التي ملأت قلبه صلى الله عليه وسلم وهو ينظر لصرح هذا الدين كيف يعلو ليصل ويعانق السماء، وتمثل ذلك عندما لحق به ذلك الشاب "سراقة" الذي طمع بما عُرض من مكافآت مادية لأجل أن يقبض عليه، وبعد تدخل السماء لمنعه من الاقتراب من حضرته صلى الله عليه وسلم، فجعله متمرغاً في التراب بعد أن سقط قهراً عن فرسه المتمرد عليه، عندها يصدع صوت النبي العظيم يخاطبه بالأمل الموعود ونبرات الرحمة المحمدية كيف بك يا "سراقة" لو نلت أعظم مما تطمع إليه نفسك، فوعدت أن تنال سواري كسرى إن تراجعت لتحمي هذا الدين، فيُفتح قلبه ليعود مدافعاً حامياً لمسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبعد أنظار الكافرين ويصدها لتنحرف خطواتهم عن اللاحق به.
وهناك في الغار وتحت السماء يجتمع الصاحبين والله ثالثهما، ورغم خوف أبا بكر وارتجافه على رسول الله، وخوفه من أن يقترب هؤلاء الطغاة فينظر أحدهم لطرف قدميه، فتلمح أبصار الكافرين السوداء وجودهم في جوف ذلك الغار، لكن الأمل ينطلق من جديد من قلبه المتوكل على ربه صلى لله عليه وسلم ليُذكره كيف ذلك والله ثالثهما يرعى ويدبر مسيرتهما، فتعمى قلوب وأبصار الكافرين عن الرؤية لهذا النور الساطع في أركان السماء والأرض، فيعودوا خائبين من حيت أتوا لا يجدون ما كانت تصبو إليه نفوسهم وتطمع إليه من تدمير هذا الدين .
ومع الصباح وإشراقه شمسه على وجه الأرض ينطلق النبي وصاحبه لوجهته الأولى التي سينطلق بها نحو لعالمية الإسلام، فيستمر سيره بخطواته الثابتة، وفي محطات طريقه الطويل يصادفه الحدث العظيم عندما يزور تلك المرأة العجوز التي فقدت الأمل من مقومات الحياة، وسيطرة القحط على أرض الفلاة، ووقفت الشاة بضعفها عن العطاء فلا تسقط قطرة من لبن الحياة، فتأتي بها للنبي الهادي وفي لمسة يديه الشريفتين يعود العطاء الكريم ليغذي ويروي أكبر الجمع، وتوضع بركة يديه عليها ليبقى عطاءها مستمراً طوال وجودها دون فناء، فيأتي الزوج من رحلة الفلاة مذهولاً مما يراه لشأن تلك الشاة التي فقدت مقوماتها للعطاء كيف يكون منها هذا، وكيف تعود للحياة من جديد بعد أن كانت في لحظات الاحتضار والموت الأخير، فتحدثه زوجه بأعذب الوصف وأجملها لصفاته العظيمة لزائرها الكريم، وحظها الجميل بملاقاة وجهه الشريف، فيعلم أنها صفات للرجل العظيم الذي شاع صيته وبدأت قريش تلاحقه، فوعد ربه أن يكون من أتباعه في الوقت الذي يحين .
وتقترب الخطوات من تلك البقعة التي تنتظر موعد النور، ويطل عليهم مستبشراً ليستقبلوه بأعظم الكلمات وأناشيد الترحيب، وتتهلل القلوب فرحاً وسعادة للتنافس على النيل بكرامة زيارته وإكرامه، فيدع ناقته لتختار بإذن ربها الموقع حيثما تشاء، فيقع اختيارها لأيتام ضعفاء ليكرمهم رب السماء، وتكون تلك البقعة لها الحظ والنصيب من بركة السماء، ليؤسس أول بيت من بيوت الله على التقوى وصدق الإيمان.
ومع انتهاء مراسم الترحيب والتهليل والتكبير فرحاً بمجيء النبي المصطفى، يبدأ التخطيط والعمل الجاد لعوامل البناء لهذا المجتمع الجديد، والتحضير للنصر القريب، فأول مقوم وضعه الرسول صلى لله عليه وسلم ليبدأ التغير والبناء هو بناء المسجد "مسجد قباء" ليكون نبراساً لتلقي العلم والتعلم ومكان لاجتماع المسلمين لمعرفة أمور حياتهم ومشكلاتهم، وليجتمع الجميع فيه ليشتركوا في أمور مجتمعهم وليضعوا بصماتهم وليستمعوا منصتين لقائدهم، ويأخذوا ويتلقوا على يديه أعظم دروس الحياة الشريفة والعزيزة.
ثم يضع المقوم الأخر من مقومات المجتمع ونجاحه فيدعو لبناء السوق كي يبدأ الحراك الاقتصادي وتبنى الدولة على قوة اقتصادية قوية قادرة على الاعتماد على ذاتها وليست تابعة لغيرها فتبقى تحت سطوتهم، فتُفتح أبواب التجارة مع ما يحيط بهم ليزداد الامتداد والتعرف على هذا الدين، فنجح الصحابة نجاح عظيماً في الاعتماد على أنفسهم، وتأسيس تلك القوة الاقتصادية العظيمة دون التبعية لأحد.
ثم عمل عليه الصلاة والسلام على وضع أسس التوازن الاجتماعي والطبقي بين الناس، كي تتحقق أسس العدالة الاجتماعية، فلا يكون هناك مجتمع تغلب فيه طبقة على أخرى، فقام بتوزيع الثروات والممتلكات بإرادة جماعية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ليضع أسلوب التكافل والتعاون والتآخي بين أفراد المجتمع، فبني النفسيات على حب الإيثار والتقديم لأجل الآخرين، في سبيل نجاح الدعوة وتثبيت أركان ومقومات هذه الدولة لتقام على القوة، فجعل وحدة القلوب القائمة على المحبة والتآلف والتطوع لأجل التعمير والبناء، والتطهر من صفات الأنانية وحب الذات والمصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة، فقد قدم المهاجرين إلى المدينة وخلفوا وراءهم كل ما يملكون، فخرجوا عراة من أمولهم وممتلكاتهم، فسارع الأنصار ليقدموا لهم كل ما يملكون ليتقاسموه معا، لأجل وحدة الهدف ونصرة القضية الأولى وهي دعوة الحق والإيمان.
وكانت حال المرأة من أهم ما لاقى اهتمام رسول الله صلى لله عليه وسلم، حيث أبرز دورها وأهميه تفاعلها في مجتمعها، ورفع قدرها ليجعل ممن أكرمها مدخلاً له في الفوز بالجنة ومرضاة الله، فدخلت الميادين الكثيرة إلى جانب الرجل لتدافع عن دعوة الحق وتنشر ذلك الدين، وتمثل ذلك منذ البداية بنسائه صلى الله عليه وسلم اللاتي حرص رسول الله صلى لله عليه وسلم أن يرافقنه حتى في الغزوات، وجعل من كل واحدة منهن مدرسة للتقوى والعطاء لتكون منارة لتُعلم نساء العالمين من بعدهنّ، وأكثر ما تمثل ذلك بزوجه خديجة رضي لله عنها التي حملت هم ذلك الدين وقدمت من التضحيات المادية والمعنوية الكثير، ودفعت للتفاؤل والأمل لهذا الدين رضي لله عنها وأرضاها، فضربت أعظم المثل لنساء المسلمين في البذل والفداء والوقوف خلف دعوة الحق ونصرة الزوج الكريم، فكانت من استحقت عهد الوفاء الدائم منه صلى لله عليه وسلم بعد وفاتها، ثم إلى جانبها ابنة الصديق أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، تربت على يديه الشريفتين فتعلمت الكتاب والحكمة بما تمثل منه من قول أو سلوك، فحرصت على التلقي والحفظ لتفاصيل حياته معها لتكون معلمة الأجيال، ويتدارس طلاب العلم على يديها من الصحابة الكرام، فكانت القدوة العظيمة لكل النساء اللاتي يسعينّ لتعليم الدين ونشر الحق والإصرار على تحقيقه مهما بلغت الصعوبات والعقبات في ضخامتها .
وحرص رسول الله صلى الله عليه على أن يضع أسس ومقومات القوة التي تجعل المجتمع ثابتا لا يقدر العدو على اختراقه، فحرص على أن يعدل ويغير كل ما يطرأ من سلوكيات وأساليب تؤدي للخلل أو ما زالت من مخلفات الجاهلية، فكثير من الأمور قد تم إلغاءها من العادات والأفكار والمفاهيم، وبعض منه أقرها ووافق عليها لأنها لم تخالف منهج الدعوة الإيمانية وفكرها، وبعض منها سكت عنها وجعلها تعود لما يراه المسلمين من مصلحة تقتضي وجوده أو نفيه وإلغائه.
وبعد أن انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من التخطيط للأمور الداخلية للمجتمع وضرورة الحرص عليها وفتح باب التنافس في التقديم في سبيل مرضاة الله ورسوله، بدأ التخطيط للعمل الخارجي وبالذات العسكري وكيف سيتم دعوة الآخرين للدخول في هذا الدين، فكانت البداية بالعودة للأنظار للبلد الأصل لبعثت هذا النور، والمنبع الأول للوجهة التي ستكون محطة الأنظار لكل المسلمين للبعثة العالمية الأولى للتقرب إلى لله سبحانه، فكانت الكعبة المشرفة تلك المنارة الإلهية تعلق بها قلب رسول الله صلى لله عليه وسلم، وطمعه بالطواف حولها دون تواجد عوامل الشرك والتفاف الأصنام، فبدأت معركته تسير بهذا الاتجاه فخاض معاركه الحربية والسلمية مع قومه "قريش" حتى أكمل الله دينه وأتم نعمته ليدخلها فاتحاً بالسلم دون حمل للسلاح ولا قتل ولا دماء، فأصبح الناس أمنين فدخلوا أفواجاً في دعوته منبهرين في عظمة ذلك الدين وعلو خلقه وقيمة والتي تمثلت بأخلاقه صلى الله عليه وسلم وأخلاق مجتمعه وأفراده الذين تربوا على يديه صلى الله عليه وسلم.
كان منهجه صلى الله عليه وسلم في منذ البداية يقوم على أسلوب الرحمة وتأليف القلوب، وعلى الإقناع بما لديه من علم وحجج ودلائل تفتح القلوب والألباب، وما حمل السلاح للقتل إلا في حالة الإصرار والكبر والمعاندة في مهاجمة هذا الدين ومحاولة القضاء عليه في مهده وعدم السماح له للنمو والانتشار للعالمين، وما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته أحداً من المسلمين عياناً ليفضح أمره، بل كان أسلوبه التعريض منعاً للإحراج وجرح المشاعر وإيذاء النفوس، حتى في خطابه الدعوي الخارجي والدولي ما أمر أحداً من صحابته خرج في سبيل الدعوة بالقتل وإراقة الدماء ما دموا شهدوا بالوحدانية، وحرص على تربية نفوسهم بأدب الحرب والغزو، فلا يعتدوا على ضعيف من امرأة أو طفل أو شيخ أو مسالم لا دخل له بالمجال الحربي، وأن يحفظ حق الأديان الأخرى فلا تهدم صومعة ولا كنيسة ولا غيرها، وليدخلوا بعلو القيم والأخلاق المحمدية التي تدفع القلوب للإيمان بعظمتها .
وبعد أن أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عوامل البناء وتحقيق النصر، جاء الفتح العظيم لفتح مكة الذي دفع الناس من مشارق الأرض ومغاربها ليتوجهوا إليها موحدين مكبرين منفعلين لعظمة هذا لدين، وبدء العالمية الإسلامية لينتشر الدين الحق ليبقى ويسود العالم كله بعلو قيمه وأخلاقه الربانية المحمدية.
وفي زماننا هذا من القرن الواحد والعشرين، وما تمر به الأمة المحمدية من وضع وانطلاق الثورات العربية، وتقلب حال القلوب بين الأمل والتشاؤم لما ستؤول إليه حال الأمة المستقبلية، فإن تلك الهجرة النبوية تعلمنا الكثير من أحداثها لتكون درساً عظيماً للأمل والتفاؤل ورؤية مستقبل هذه الأمة الذي يبشر بالفتح القريب، مما يوجب على أفراد المسلمين عامتهم تعلم وتدارس أحداثها لتأخذ العبر والمبادئ القوية التي تأسس لمقومات النصر لنجاح الثورات والبدء في البناء، فليس بعد الهجرة المحمدية الأولى هجرة أخرى تتبعها إلا بهجرة القلوب عن إتباع الضلال والفساد لتهاجر لطريق الحق والإيمان.
إن ما يتعرض له المسلمون من امتهان للكرامة الإنسانية، وقتل وعدوان وإراقة للدماء دون رحمة ولا ضمير من أهل الاستبداد والظلم، ومع اسوداد الصورة وقتامها لهول ما يشاهد من مواقف القهر والإذلال ومنع لبذور الثورات والإصلاح من النمو والتطوير، ومع شدة أهل الباطل الساعين للفساد والإفساد في الأرض للصد عن رؤية الحق وإشراق نور الخير والنصر، فإن صدقت قلوب الساعين الباحثين عن إقامة العدل القائم على منهج السماء، والبذل في سبيل نصرة الحق والدين، وإقامة عوامل الثورات القائم على القسط بين الناس، وتطبيق شريعة الرحمن، فإن حادثة الهجرة التي خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك أي مقوم من مقومات النصر وقد أحاطت به ظروف العدوان والظلم والتهديد بالقتل وإراقة الدماء، إلا أنه استمر بصلابة قوته للسير في منهجه ولم يصده عن التراجع عن دعوته أي تهديد ولا عدوان، بل كان يزرع الأمل في كل موقف دل في ظاهره على الخوف والخذلان، لكن رؤيته عليه الصلاة والسلام بنيت على قوة الإيمان والأمل العريض بما وعده ربه، رؤية ربانية انطلقت من قوة الاعتقاد واليقين لرؤية الفوز والفلاح العظيم والتفاؤل والإيجابية الدائمة نحو السير للفتح المبين، ستكون أعظم الدروس تتلقى منها قلوب المؤمنين الصالحين.
فإن تعلم المسلمون ذلك النمط وهذا الدرس من التفكير والتعامل مع قضاياهم والتعامل مع الثورات، فستكون تلك الثورات وهذا الموت وتلك التضحيات الصادقة هي المرحلة الأولى التي يدفع بها المسلمين ثمن نجاح الثورات، كما ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فصبروا وقدموا الكثير لتحقيق النجاح الذي ظهر أثره بعد ثلاث وعشرون عاماً من الدعوة المحمدية، مع استمرار الرؤية الإيجابية والتفاؤل ودفع الأمل نحوالثورات ورفع همة الداعين مهما اشتدت الكر بات وعظمت، والابتعاد عن هوس الإحباط واليأس والاستبعاد لتحقق أمل الثوراتوالفتح لهذه الأمة من جديد.
فإن تحقق هذا الصدق والإخلاص والصبر الجميل على ما يلاقى من أثر الثورات، واستمر الإصرار بتقديم التضحيات الجسام فلا يأخذهم في دين الله لومه لائم، ولا يخشون أحداً إلا الله، عندها سيكون ذلك أول مقومات القوة والنصر الحقيقي الذي سيدفع بقرب الفتح العظيم، والذي سيأتي بعد مراحل تدريج الثورات، فيبدأ المسلمون بجمع تفرقهم وتوحيد قلوبهم وبناء حضارتهم وقوتهم الاقتصادية المستقلة، وبناء قوتهم العسكرية والعلمية والاجتماعية، وتحرير المرأة مما أدخل عليها من مبادئ الانحراف القائمة على العري والخلاعة، لتعود امرأة عزيزة كريمة تشارك بدورها إلى جانب الرجل، بالتزامها بحشمتها وعلو أخلاقها وقيمها بعيداً عن التميع والفساد، وأن تسود القيم والمبادئ التي تقود الفرد والجماعة إلى الإصلاح والتطوير، وأن توزع الأدوار بين الجميع فكل فرد ينال حظه ونصيبه بما يملك من مهارات وقدرات يسعى من خلالها للإبداع والتطوير، وأن يتخلى عن التبعية لأصحاب المبادئ والقيم المسمومة التي تدخل إلينا لتحرف أبناء الأمة وأفكارهم عن مسارها السوي، وأن يفتح باب التعاون للعلاقات الدولية على قيم وأنظمة جديدة تحفظ للأمة مكانتها وتميزها واحترامها، وأن تسابق لنيل أعلى الدرجات العلمية والتطويرية، وأن تكون الأخلاق والقيم الكريمة الربانية المحمدية سادت جميع قلوب المسلمين أينما توجهوا وتواجدوا ليكون كل واحد منهم ررسول لرسالة هذه الدعوة الربانية، فعندما يتمثل ذلك الدين فينا بقيمنا وأفكارنا وعاداتنا وسلوكياتنا فنصبح حضارة عظمى بكل ما فيها من مقومات الصلاح للإنسانية جمعاء.
سينبهر ويذهل العالم بأخلاق وعظمة هذا الدين ودعاته، بما يحمل من قيم لاحترام الإنسان وصون لكرامته دون تميز لدينه أو لونه أو جنسه، واحترام للحقوق والملكية الخاصة والعامة، ووضع أسس التوازن والبعد عن الشطط في جوانب الحياة كلها، فنصبح المنطلق لعولمة العالم باتجاه مفاهيم الخير والصلاح والبعد عن أي مفهوم يؤدي للفساد والإفساد في الأرض، والفقدان لتحقيق التوازن والتكامل للعدالة الإنسانية الشاملة، عندها سيسارع الناس من كل بقاع الأرض للدخول في هذا الدين أفواجاً لروعته وجماله.
عندها سينبت ذلك الربيع العربي من ثوراته ذلك الأمل العظيم الذي زرعه فينا رسولنا الكريم عندما خرج وهو ينظر كأن اليوم للغد قريب لذاك الأمل الذي نبت في قلوب شباب الأمة كما نبت في قلوب الصحابة رضي الله عنهم، فصمموا على المضي في ثورتهم خلف نبيهم وقائدهم فنجحت هذه الثورات لانطلاق العالمية والسيادة لهذا الدين كما ستعاد له سيادته بالغد القريب لهذه الأمة بعد صبرها وثباتها وتضحياتها الكبيرة وتحمل النفس الطويل لثورات مع السعي للعمل الجاد واليقين بإذنه تعالى