ظننته في البداية غباءً، كيف يتكرر الفعل والقول ولا استفادة على الإطلاق من المواقف السابقة عليهم، والمتكررة في مشهد الثورات هنا وهناك.
ثم ظننته عدم حنكة وخبرة بالسياسة، و أن أخطاءهم بلا نية مبيتة أو مؤامرة تحاك.
ولكن الحقيقة الواضحة هي أنهم يمشون في طريق أراده الله لهم، لا يجنون من ورائه سوى الخزي والعار والنهاية المأساوية، كل بما يستحق؛ مبارك كانت عنده الفرصة في بداية الثورة أن يجري إصلاحات طفيفة يمتص بها غضب الناس، فيعودون بالأمل إلى منازلهم. فلم تكن مطالبهم سوى حرية وعدالة اجتماعية، ولكنها إرادة الله أن يعاقبه بالبطء وقلة الرأي ومحاولة التعمية، فزادت المطالب؛ حتى قالت الثورة كلمتها الفاصلة" ارحـــل".
والمجلس العسكري - وهو غير الجيش - جاءته فرصة من السماء ليدير شئون البلاد، وأخذ أكثر من فرصة، وأكثر من الوقت المفروض، فلم يسعفه الوقت، تبعًا لميراث البطء، ولم يسعفه العقل تبعًا لتحجره، ولم تسعفه الرغبة الصادقة في تحقيق غايات الثورة؛ لأنها غير موجودة، وليس له هم سوى محاولة "تستيف" الأمور على مزاجه، وبما يضمن له الهيمنة الكاملة، وإطالة مدة بقائه، مدونًا كل هذا فيما يسمى وثيقة السلمي، فقامت ضده الثورة الثانية.
وكانت أمامه أيضًا الفرصة ليستوعبها من بدايتها، فلم تكن المطالب سوى رفض وثيقة السلمي، وتحديد موعد زمني لنقل السلطة، ولكن الصلف العسكري أوقعهم فيما وقع فيه السابقون، وكأن السطر الذي يكتب في صفحات التاريخ يمحى قبل أن يقرأ وتعود الصفحات بيضاء خاوية. و أخيرًا بيان المشير الذي جاء متأخرًا كعادة بياناتهم، وجاء جافًا خاويًا من الروح ومن الصدق كعادة قلوبهم، وجاء متعاليًا مذكرًا بالأفضال والمنة على الشعب كعادة لئيمهم.
متأخرًا لأنه كان يكتب وينقح ويحذف منه ما يمس القلب ويثلج الصدر، ويضع فيه ما يحمر العين ويكشر الناب، ملوحًا بالعصا و دون الجزرة. أهم ما استوقفني في الخطاب هو الحرص على بناء الأمن وإعادة قوته، وهو الذي كان قد فقد قدرته على الحماية، والحقيقة أنني أشهد لهم بالنجاح في إعادة بناء قوة الأمن؛ فقد سلحه بذخيرة أكثر فتكًا، واستورد له من إسرائيل مبيدًا مدمرًا للأعصاب، يصيب بالإرهاق والعته.
وأطلق يده في ثوار يعتقد أن له عندهم ثأر إهدار الكرامة، من هزيمتهم السابقة في 28 يناير، وانسحابهم مخذولين، وفي البلطجية العوض عنهم.
المشير يقرأ من جهاز بكلمات محضرة، عسكرية صرفة، ولا يقرأ من قلبه وعاطفته حزينًا مما وقع من أحداث بينة، لماذا لم يخرج على الشعب والثوار ويكلمهم بلغتهم؟" أعتذر عما حدث"، و أنه سيعاقب المتسبب، ومن الآن تنسحب الشرطة من الميدان، و"تفضلوا بتسلم السلطة فليس لنا طمعًا فيها، وقد ثبت فشلنا"؟ قد يقول قائل إن ما تقولين يصلح لافتات للمدينة الفاضلة التي لا تحدث إلا في الأحلام، وقد يقول قائل لم يفعل ذلك لأنه طامع في السلطة، ولأنه المستورد من العدو المبيد البشري، وهو الذي أعطى الأوامر أو على الأقل لم يستنكرها، وقد يقول وقد يقول... ولكن لي رأي آخر، هو تخطيط رباني، لكي يصعد الغث فيُجتث، مخطيءٌ من يظن أن الثورات العربية جميعها قامت ضد الحاكم بشخصه، و ترغب تغيير الوجوه، لا، هي ضد الجهل والغباء، ضد الظلم وصناعة التابعين المضللين، والملاحظ ارتفاع مستوى التوعية عند الشعب، وقدرة الكثيرين على فهم الأمور وما يدور حولهم، وتحليل الأحداث، والمشاركة الإيجابية، ولو بالكلمة، كل هذا ما كان لينكشف لولا الثورات التي بدورها أفرزت الرجال القادرون على الاعتراض، والتصدي بصدورهم مقابل المبدأ والهدف. أما الأشخاص؛ فيرديهم الله بأفعالهم. يتجبر زين العابدين بن علي فيفر كالنعاج، يتحكم حسني مبارك وحكومته فتتلقفهم السجون ويحاكمون، يتعالى القذافي ويصف شعبه بالجرذان فيمسك من جحر الجرذان، يشير ابنه بإصبعه مهددًا فيقطعه له الثوار، يشعلها علي عبد الله صالح فيحرق ويشوه مرحلة أولى، مصير بشار الأسد بات قاب قوسين أو أدنى... فهل من معتبر يعلم أنه يؤخذ بقدرة الله لا بقوة قمعه؟