لا تمثل القيادات الحزبية السابقه أملا في صياغة اي مستقبل ينشده الجنوبيون لما تحمله نفوسهم من شروخ عميقه بينها ، كناتج طبيعي لصراعات لا نجد في التذكير بها الا تنشيط لفعل الجروح وتسميم حالة التوحد المرجوه في اللحظة هذه...
وانما فكرة العوده الى عدن تحمل تبويب لفصل نشط وعملي من تاريخ الحراك الذي ظل وحده على مستواه الجماهيري السمة المتجذره على بوابة المستقبل الآتي .
حراك يحمل هذا اللقب في ثقافة التغيير بمسمياة صحافيه باشرته منذ نشأته لتأخذ عنه صفته الحقيقيه كثورة شعبيه لم تزل تعيش ربيعها ، رغم ان الربيع العربي قد دخل في دورة الفصول وفي فقه التحليل النظري عن مداه ومنتوجاته وما احدثه في طاحونة التغيير .
وللتاريخ شأن عظيم في تفكيك وتشريح ذلك الفصل الذي حمل إسما مستوردا وفعلا شبابيا داخليا وحقيقيا.
اذآ الحراك الجنوبي مازال طليق الرأس وحرا لم تناوشه إرادات التسويات السياسيه وتوزعه بين القوى التقليديه وتقسمه الى منصات ودماء.. ولم توجهه ارشادات الفقهاء وراجمات حماة الثورات او بكائيات من افرزتهم لحظات الخلط بين الماضي الكريه والمستقبل الذي ما يزال في طور النمذجه النظريه.
الحراك الطليق لا يزال مالك حصري لإراداته الاولى ينضج ويشتد على الطريق دون ان يتواطأ مع اي من القيادات ليتوزع في اصطفافات خلف الشخصيه ( التاريخيه) هذه او تلك ، وعلى التاريخ ان يختار بالفعل ما اذا كان يظل لصيق اسماء للتعريف وحسب !
نقول ونردد بان الحراك الجنوبي ثورة شعبيه مفعمة بالعزم والتضحيات تضخ في مسيرتها دماء الشباب والفئات الاجتماعيه الاخرى وهذه اكبر قوة امتلكها الجنوب في تاريخه المعاصر تحمل تمييزا واضحا عن منهج الثورات الاخرى (خصوصية في منبعها وقوامها وأهدافها) وكذلك عن الثورة في الشمال التي -كما قلنا - دخلت في تفريعات التسويه وانشغال النخب بالتصميم الهندسي للتغير التوافقي خارج الاملاء الجماهيري اي ان الثورة هناك خرجت من الساحات الى المنصات - والاضواء التي ساهمت في صناعة الشخصيه القياديه بشكل درامي في سياق الثوره - ثم نحو التسويه والمبادرة الحصريه التي أخذ بها جيل القيادات السياسيه والدينيه والقبليه كمرجعية عقلانيه لوضع الشمال على نهج التغيير البارد الطويل باعتبار ان تقدم واحتدام الثوره ظل مفتوحا على مغامرات غير مضمونة العواقب في واقع اجتماعي وسياسي شديد التعقيد وهذا ما تعمد الكثير على اخراجه ضمن مسوغات نظريه تبرهن بان المبادرة الخليجيه مرجعية عقلانيه لوضع معادلة لا غالب ولا مغلوب وتضع على كفتي ميزان شديد الحساسية قوتين سيظل الشعب رهينة لحالات الشد والجذب بينهما وسيظل كل شئ آخر مجرد اوراق بيد هتين الزعامتين اللتان تعلو قاعدة اجتماعية واسعه بجذورها وتنظيمها وتملك الاحزاب والجيوش .. انها صناعة تاريخيه نجحت الثورة والمبادرة الى إظهارها بشكل جارح يكشف عن عمق التعقيد السياسي التاريخي للقضية الشماليه التي تبرز في الخطاب وفي التداولات الرسمية الداخليه والخارجيه كقضية مركزية تدور حولها كل المسائل الأخرى ذات الخصائص المختلفه وهذا أمر يجب التنبه له .
ان كل شئ في مختبر التجربه ولا إفرازات حقيقيه بعد تبهر الثائرين وتلوح في الافق القريب وهذا ما يجعلنا حذرين ونحاول الابتعاد في تناولنا هذا عن ان نكون مبكرين جداً في تقييمنا واستنتاجاتنا.
لكننا امام قضيتين في الشمال والجنوب وهذا الاهم في قراءة المشهد العام بواقعية شديده .. ولكل منهما خصوصيات وتاريخ وجذور وصراعات وقوى وقواعد اجتماعيه وتناقضات وايضا مصائر... ومهما حدث الخلط بفعل تجربة الوحده الا ان الأكيد بانه حتى الثورتين المعاصرتين شمالا وجنوبا حملتا تعريفين متباعدين بالرغم انهما حاربا عدوا مشترك ..( وحتى هذا الاخير يختلف جنوبا حيث نصف تحالف من أسروه يتربع على اكتاف الثوار و يتمثل في قيادات سياسية قبلية ودينية بل وعسكريه ).
وحتى وان كان ما يجري هنا وهناك يتأثر سلبا وإيجابا يتقدم ويتقهقر وفقا لجدلية الترابط والجوار لكن القضيتين أصبحتا الان على طريقين :
أفق ما يساور صنعاء وأفق آخر يراود عدن.
إن اكبر أسر عرفته الشخصية العربية النمطيه هو الوحدة القوميه بمفهومها الكلاسيكي المتآكل لاحقا والذي تم حرثه وغرسه وزرعه وتنميته في عقول جيل الثورات الاولى التي مثلت (صحوة) قوميه بعد قرون الشتات والانضواء داخل كهوف الهيمنة الخارجيه،
نقول صحوة قوميه وحسب رافقها عجز في جوانب الحياة بأبعادها الديمقراطية الحداثية المعرفية التنموية وكل مفردات التشخيص والسمات الحضاريه لنهضة الامم الحقيقيه فظلت تلتهب خلف الشعار وتحرق كلما تلامسه حتى انكشف الانهيار التدريجي الشمولي يصاحبه خطر الانهيار الاجتماعي وانتجت ثورات ( ربيعيه) ما زالت في اول طور لها و لازال للتاريخ حديث قادم حول نتائجها.
الوحدة ، الاندماج ، الانصهار ، الواحدية ، الأحدية ، المتداخلة ، المحتواة ، الفريدة ، المجيدة ، ثم القهرية القسرية : مستمدة نماذج ووقائع من تواريخ بادت وتواريخ الامبراطوريات والمملكات التي تمضغ جغرافيا واسعة وتبتلع شعوب تحت عرش التوحد الانصهاري المقدس.
ولا يضر ان تضع شعب تحت الاتهام المضلل بالانفصالية والردة والكفر حين يرفض الموت الميسر البطيئ بإسم الوحده ... ولا يضر ان تعمق الثورات الجديده ( وهذه المأساة) تلك المفاهيم الفيديه الحصريه التي يأبى حتى التاريخ الدفاع عنها .. لا يهم لانه وبكل بساطه سلوك الشخصية المعنويه لسلالة تنحدر من عقلية المنشأ القومي الغليظ غير المهادن مع اي نزعات لتقويم وتصويب معاني الشراكة الحقيقيه ، او محاولات لتفكيك المفاهيم القومية العتيقه تلك كالوحده والتوحد وتمجيدها على أشلاء المنكوبين فالفكرة عند هؤلاء تسبق الواقع والفرضيه التعميميه تغطي ما يناقضها بل وتخفيه في عملية هضم سوداء لا يلتفت احد اليها حتى يفيض الكيل وتبقى السيوف حينها من يفصح عن المواقف المعاصره قبل ان يعود الكلام الى افواه الحكمه.
ولكن ماذا عن العودة الى عدن تلك المدينة الآهلة بالحلم القريبة الى مذاق التفرد ومفردات الآتي الجديد من الزمان ؟ هل تاهت الكلمه عن السياق وتخثر السرد على مقام آخر ؟
سيتبع في حلقة قادمه .