ليس في النفس شئ نُصَوِّبه نحو الجراح ، فهي عميقة جدًا ولكن هناك طالعةٌ أُولى او بَيِّنَه يُرادُ لها أن ( تظهر )بشكل جلي .. كون اليمن بكل أجزائه ينتقل من وضع الى وضع ، بنفس الآليات والشخوص تحت رقابة العالم واجتهاد المبعوث ألأُمَمِي والسفراء (الأماجد ) .
هناك تاريخ مزدحم من ألإنتقال والتحوُّل والقبول والنفور ... من المَلَكية والاستعمار الى الجمهوريات الفتيه ثم سُلَّم التصحيحات بين جمهوريه وأخرى فالوحدة فالحرب فالقبضة التوحيديه باتجاه التوريث ثم الثورة فالانتقال المُسْتَجد .
وبالطبع في كل مرحلة ينشأ جيل جديد ( بالمفهوم السياسي وليس العمري ) ويتخلَّفُ آخر ، ثوَّار وطنيون ، وأعداء الثورة والوطن، وشعارات وأجهزة ... الخ . . فيما يتعمق في المجتمع وبشكل دائم فِكْرٌ إنتقالي نحو الواقع الإفتراضي الذي يجب عليه ان ينشأ أولا في مكان ما بين الذاكره والمقاربه النظريه التي تلبث زمناً في الخيال السياسي الطافح بالتنظير والفرضيات و(المُسَلَّمات) الوطنيه، والى ذلك، حتى تتطبع الحياه بظروف الانتقال ويصبح واقعاً تنتقل الدنيا حول ثباته ويظن انه هو من يتحرك.
واقع فصامي ، ومجتمع أثقلت كاهله النوائب ، يسير مثلما كان ، دون الاعتراف الحقيقي بالضرورات الواقعيه التي يجب التعامل معها بما يُحَقق الاستقرار والأمن بشكل دائم لكي لا يتم وضع الحياة في متحف ألأهواء السياسيه ألمزمنه والمواقف المتخشبه حول القضايا الرئيسه للمجتمع ، على اعتبار ان الثوره لم تقدِّم رؤيا حقيقيه غير شعارات الديمقراطيه ومسألة السلطه وحتى هذه دخلت في مساومات كبيره تنتقل مثلما اسلفنا الى الغموض .
ألآن بعد أن أصبح اليمن قضايا : سقفٌ بلا بيت أو العكس ، وأسم دون أرضٍ واحده ، وكُتَل دون روابط وطنيه وجيوش دون أمن ، وملامح دون وجوه وكل شئ بدون أي شئ.. فإن الحديث عن الانتقال بحاجه الى خيال سياسي خرافي ، يتعذر عنده وضع وصفة خالصة نحو سبيلٍ آمنْ .
لقد رأينا في كل تجارب الدنيا أن التعامل مع المعضلات الكبيره يبدأ من تشخيصها والاعتراف بها ثم معالجتها من خلال مناهج موضوعيه خارج الثوابت القهريه وإزدواجية المعايير بالنسبة للحقوق الخاصه والعامه بمقاييسها الصغرى والكبرى .
لكن في الحالة اليمنيه لا زال الكل يشحذ الخطاب العتيق ويحتمي خلف الكلمات الغليظه لبيانات الاحزاب والكتل والشخصيات الاجتماعيه ، المزروعه في الضمائر كانها قَدَر مستدام ، وبالطبع فان الشخصيات الإجتماعيه في اليمن لها مدلول مختلف تماماً عمَّا يفهمه العالم .
إن الديمقراطية وحقوق الفرد والمجتمع والمدنيه والليبراليه ومستودع المصطلحات الانسانية السياسيه كله يفترض به أن يكون كامل ومستوفى لا يتم تجزئته حسب المشاريع السياسيه المرتبطه بالمصالح الخاصه أو الحزبيه أو الجهويه.. كما هو الحال في سلوك النخب العليا والسفلى والسفلى جداً بالطبع ، وهنا يبرز الفصام الحقيقي في السلوك السياسي والازدواجيه في المبادئ الانسانيه كأبرز الظواهر التي تعصف بالواقع السياسي والاجتماعي .
وتتجلى صفة الانتقالية المزمنه باتجاهين متعاكسين ذهاباً إياباً حسب الظرف في واقع الاحزاب الكبيره في اليمن :
فحزب الاصلاح الذي نشأ في ظرف الوحده لاهداف محدده مثلاً، إنتقل من السلطه الى المعارضه تدريجياً ثم بالطبع الى الثوره ويعيش خطابه حالة فصامية مفزعه بين الخطاب الديني التقليدي والخطاب الثوري المزيَّنْ بالمفردات الحديثه كالمدنيه وغيرها، والذي يتأرجح بين الحديث عن الخلافه والدولة الحديثه ،
دون ان يعلن مواقف ثابته ، وهو يتأهب لإستلام السلطه لاحقاً ، حول القضايا الرئيسه من خلال وثيقة حزبية مُعْلَنَه خارج التصريحات للناطقين باسم هيئاته ، مثل شكل الدوله وقضية الجنوب والحوثيين والفكر الجهادي ... الخ من القضايا الحساسه التي يفترض باي حزب بحجم الاصلاح أن يعلنها بشفافيه دون ان تكون وسيلة خطابيه لأي غرض بل موقف واع.
وهذا يحتاج الى زمن انتقالي بعيد المدى لكي تظهر مواقف حقيقيه يفهما الناس تماماً.
اما شريكه القديم ، المؤتمر الشعبي ، فإن انتقاله عسير ، من الحضانه الرسمية الى الشارع وهي رحلة عذاب حقيقي وتحدي من اجل البقاء.. وهي حالة خاصه في المشهد اليوم تتعلق بإعادة صياغة حقيقيه وليس إنتقال بالمفهوم العام.
وإذا اسقطنا هذه الحقيقه في سياق آخر ، على الحزب الاشتراكي مثلاً ، كنموذج لفصام آخر ، في هذا التاريخ ( المتلاطم ) نجده لايزال يبحث عن عباءته الإعتباريه ، ففي الجنوب تخلَّى عنه الرفاق الاوائل وتخلَّى عنهم ، وفي الشمال لازال يُنْظَر له بانَّه حزبٌ وافد وإن كانت له قواعد جماهيريه أكثر منها في الجنوب.. لكأنه (واقول لكأنه فقط ) حزب فاقد الوزن والتوازن ليس على أرضيته الاجتماعيه فحسب بل في أرضيته الفكريه خاصة وأنه بعد تاريخ اشتراكي ظل خلاله قوياً عتيَّا أصبح اليوم يطل برأسه من تحت عباءَة الحزب الأوسع انتشارا والأكثر عدَّة وعتاداً في الساحة الشماليه والحزب الذي تأسس أصلاً من أجل تدمير الحزب الشيوعي العدني الذي وقَّع إتفاقية الوحده مع سلطة الشمال ووقَعَ على الأرض ولم ينهض بعد كما يجب .
.. وإن كانت تلك ضرورة وطنيه كما يراد لها أن تكون أو كما يقول قائل إلَّا أنَّ الواقع يشير بأن حزب الجياع فقد البوصله والرياح الاربعه نتيجة للإقصاء الكبير ، وللشرخ الذي تأصَّل بين الواقع والتنظير التاريخي ، فتَرَك ألأمر للإجتهاد الفردي لقياداته اليوميه بأن تعلن المواقف ازاء القضايا الرئيسه داخل الجحيم الأثيري المُسْتَعر .. وحتى دون أن يمتلك موقفا محدداً وواضحاً من الجنوب الذي يفترض أن يتحمل أوزار مآلاته وأن يستمد خصوصيته من هذه الزاويه .
والإنتقال المُزْمن كرَّس تشوهات فكريه وفوارق بين السلوك والخطاب عند نخب واسعة الطيف ، حيث يتم الحديث عن الليبراليه وحتى العلمانيه بينما الجذور المناطقيه والجهويه لازالت تشكل المرجعيات الرئيسه في السلوك الحقيقي .
ولهذا على أيٍّ كان أن يعترف وهو يَلِجْ سرداً كهذا بأنَّ الأمر أحْجيَة عسيره يصعب تفنيدها والخروج منها بحصيله ، بل أنه سائرٌ على جمر من الحقائق الموجعه التي تعيش في تابوهات التضليل للوعي الطبيعي وهو يخدش العقليه الانسانيه التي يجب أن تاخذ مداها في التطور حتى تستوعب القِيَم الجديده وتمتلك القدره على تمثلها وإقامة شعائرها بشكل طبيعي وقناعة سرمديه تتاصل وتتجذر جيل بعد جيل.
لِبْسٌ على لِبْسٍ في زمن الإلتباس العظيم.
عجائب وتعقيدات كبرى الان تعتمل في إناء على موقد الإنتقال .. وكل الفضاءات مفتوحة بالوانها الصاخبه وكلٌّ يدلي بقرائحه حول ما كان ويجب أن يكون .. قوى غير متكافئه وجيوش وثورات كثيره وجروح مفتوحه .. وكل هذا في فضاء انتقالي وكلٌ يسبح كيفما تأخذه الجهات .
من المستحيل إذاً أن ينبعث نظام سياسي من داخل هذا الركام العظيم يستند الى فكر جديد ووسائل موضوعيه لمعالجة المعضلات الكبرى متجاوزاً مراكز القوى التقليديه وقدسية الثوابت السياسيه ويعمل وفقاً للقاموس الحقوقي المتحضِّر في القضايا الخاصة والعامه.
وفي غياب اي استعداد حقيقي لاتخاذ خطوات تاريخيه للاعتراف بالواقع ومنهج التعامل معه ، قبل ان تتفتح فوهات الاحتقانات المفجعه ، تبقى مسألة الحوار وسيلة مُبْهَمَه ونحيله ومرتبكه جداً امام هذا الزخم الهائل من الاستحقاقات .