لقد أدرك الشعب الجنوبي أكثر من أي وقت مضى بأن الصراعات التي عصفت به في ظل دولته الجنوبية السابقة كان سببها الصراع من أجل الوحدة ، وأن المأساة التي يعيشها اليوم هي بسبب الوحدة ذاتها !!.. فما لبثت الدولة الجنوبية بعد قيامها عام 1969م أن تبدأ بالتفاعلات السياسية على المستوى الداخلي والخارجي ، حتى ظهر الصراع السياسي في قيادة تنظيم الجبهة القومية ، الذي قاد ثورة التحرير وأستلم السلطة من الاستعمار البريطاني ، بين تيارين ، سمي أحداهما " التيار التقليدي " والآخر " التيار التقدمي " .. وهذه التسميات هي من صنع التيار التقدمي بقيادة الشهيد عبد الفتاح اسماعيل الجوفي الذي انقلب على التيار التقليدي في 22 يونيو 1969م ، ولم يستطع أن يصف التيار الآخر بصفة نقيضه لـ " التقدمي " ، لأن ذلك الصراع كانت له أبعاد أخرى ، عرفها الشعب الجنوبي فيما بعد .
كان ذلك أول صراع في الجنوب ، ظهر بعد المؤتمر الرابع للجبهة القومية ، الذي أعد وثائقه نايف حواتمه زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين - ذو الفكر الشيوعي – على أساس الأفكار التقدمية للأحزاب الشيوعية العربية وحركات التحرر العالمية ، عندما كان الوجود الفعلي للجبهة القومية آنذاك محصوراً في عدن قبل أن تـتـشكل لجان تنظيمية فاعلة للجبهة القومية في كل المحافظات الجنوبية . وما كان للتيار التقدمي أن ينجح لولا أنه أستند إلى جماهير عدن ، من خلال تعبئة العمال والطلاب والمنظمات الجماهيرية والنساء ، وإيجاد وعي جديد طرح فيه مفاهيم جديدة للثورة ، بحيث جعل من القيادات السياسية للدولة الجنوبية آنذاك مجرد قوى تمثل احتياطاً للاستعمار الجديد متهما اياها بالسعي الى مد جسور مع الرجعية العربية وبريطانيا وغيرها .
لقد كرس التيار التقدمي ، بقيادة عبد الفتاح ، السياسة الداخلية والخارجية من أجل توحيد الجنوب مع الجمهورية العربية اليمنية من خلال الاستفادة من الوضع الإقليمي والدولي . ففي مقابلة له مع صحيفة "البلاغ " اللبنانية ، نشرته في عددها 19 الصادر بتاريخ 15 مايو 1972 م ، أشار عبد الفتاح : " نحن حددنا منطلقاً واضحاً من الثورة العالمية ، وهو أن (ثورتنا جزء من الثورة العربية وجزء من الثورة العالمية) .. ونحن نؤمن أن قوى الثورة هي من نمط واحد وتفكير واحد .. ويجب أن يكون موقفنا حريصاً على وحدة قوى الثورة ، وبالتالي أن يكون دورنا إيجابياً في سبيل تحقيق هذه الوحدة ".
وبعد قمة الكويت التي عقدها مع الرئيس علي عبد الله صالح عام 1979م ، دعا عبد الفتاح إلى ندوة سياسية لمناقشة أفضل السبل التي يتوجب على رجال الدولة في جنوب اليمن أن يسلكوها من أجل تحقيق الوحدة اليمنية ، حضرتها وفود كثيرة من دول عربية وأجنبية . فظهر على خلفية المناقشات في تلك الندوة صراع آخر بين فريقين ، أحدهما متحمس للوحدة ويرى إمكانية تحقيقها من دون تماثل النظامين ، وعلى رأسه عبد الفتاح اسماعيل رئيس الدولة وأمين عام الحزب الاشتراكي ، وفريق آخر يرى استحالة قيام أي نوع من الوحدة مع نظام متخلف ورجعي . فكانت النتيجة خروج عبد الفتاح من حكم الجنوب .. وربما دفع الفريق الآخر ثمن موقفه الرافض للوحدة في 13 يناير 1986م .
وإذا كان الشعب الجنوبي ، مع نخبته القيادية الثورية ، قد أدرك خطأ الفكر الدخيل ، وخطأ الحماس اللاعقلاني للوحدة ، قد خرج اليوم إلى الشارع في ثورة شعبية سلمية ، بفكر ثوري جديد وثقافة عصرية ، رافضاً الواقع السياسي والاجتماعي الذي نشأ خلال العقدين الأخيرين نتيجة فشل الوحدة اليمنية فكرياً وموضوعياً ، فإنه يعرف في الوقت نفسه بأن القوى السياسية التي خلقت الصراعات والانشقاقات في الصف الجنوبي من خلف الحدود ، تعمل في هذا المرحلة من الداخل ، من خلال الدفع المتواصل بعناصر قيادية جنوبية - بدعم وإشراف مباشر – تدعي بحقها في المشاركة في حل القضية الجنوبية بغرض إيجاد فوضى التعدد والتشتت ، وبالتالي عرقلة قيادة الحراك السلمي ورمزيته ؛ وهذا يتطلب الوعي بالقضية الجنوبية لتجاوز سلبيات الماضي ، باعتبارها نتيجة سياسات خاطئة ومصالح قوى سياسية لا تزال قائمة .
ولذلك فإن الشعب الجنوبي يدرك أيضاً ، بأنه قادر على التصدي لكل تلك المحاولات الخطيرة من خلال حفاظه على وحدته في الشارع السياسي الجنوبي واستمرار زخمه الثوري العظيم ، لأن وحدة الشارع هي الكفيلة بتوحيد القيادة الحقيقية للثورة الجنوبية .. ولأن الثورة ملكاً للشعب ، فلا بد أن تـُصنع قيادة الثورة من الشعب نفسه .. قيادة ثورية أمينة على مصالح الشعب وثورته العملاقة .. والشعب نفسه هو من يحافظ على بقاء القيادة ورمزيتها الثورية ..
ألا ترون معي بأن حتمية النصر صارت قريبة ، وظاهرة للعيان ؟! .