خطاط المصحف الشريف كتبه عشرات المرات.. ويقتني لوحات لا يرغب بعرضها
يشارف على الثمانين ولا تزال نفسه تتوق لكتابة المصحف مرة أخرى
الشيخ عثمان طه وهو يكتب المصحف في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة («الشرق الأوسط»)
جدة: منال حميدان
«لسان اليد وبهجة الضمير وسفير العقول وسلاح المعرفة وحافظ الأثر» هذا هو التعريف الذي يطلقه أحد أشهر رسامي الخط العربي في العالم على حرفته. وهو وإن خفي اسمه إلا أن تحفته الأندر ومجهوده الفني الذي وضع فيه خلاصة موهبته وخبرته وتعليمه وسنوات عمره، التي قاربت على الثمانين، يكاد لا يخلو منه بيت مسلم في مشارق الأرض ومغاربها.
وإذا أردت أن تتأكد من وجود تحفته الفنية في منزلك ما عليك إلا تناول أقرب مصحف كريم بجوارك وفتح صفحته الأخيرة لتجد أسمه مذيلا هناك، «عثمان عبده حسين طه» راسم وخطاط نسخ المصحف الشريف الصادرة عن مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الكريم في المدينة المنورة، الذي فتح عينيه على الدنيا لأول مرة في عام 1934م، وما إن بلغ الخامسة حتى بدأت بوادر موهبته الفذة في الظهور متزامنة مع تعلمه الكتابة والهجاء.
وبالنسبة لطه، فإن سر مهنته وفلسفتها يوجد في خمسة قواعد أساسية لا يخشى أن يذيعها، لأنها في النهاية هبة من الله لن يتقنها إلا من ولد بها، كما يقول، وهذه القواعد هي قوة الأخماس، أي الأصابع الخمس، وحدة الألماس، وجودة القرطاس، ولمعان الأنقاس أي الحبر، وحبس الأنفاس فلا مهنة في الدنيا تستدعي الصبر والانكباب وحبس الأنفاس كرسم الخط العربي ورسم ألفاظ المصحف الكريم على وجه الخصوص.
قصة طه، الذي كتب المصحف الشريف عشرات المرات، بدأت مبكرا منذ ولادته كما يقول، فالموهبة والاستعداد الفطري يولد مع الإنسان ويكون كامنا في الجسم ككمون النار في الحجر، كما يقول طه، الذي يستطرد بأنه كبقية أصحاب المواهب، ولد مزودا بموهبته، وبدأ يخط الحرف العربي المظفور بهالات النور عندما أمسك القلم لأول مرة ليتعلم الحروف في السادسة من عمره، وهو لا يزال يحتفظ بمخطوطات كتبها في الثامنة كانت تثير إعجاب الناس.
ويروي طه أن والده الشيخ الورع ذا الميول الدينية القوية زرع فيه تقدير الكتب من مكتبته الكبرى، التي تضم عيون ما كتب في الدين واللغة والأدب، وكان ينظر إليها ليميز في البدء أن عنوان الكتاب مكتوب بخط، واسم المؤلف بآخر، وداخل الكتاب مكتوب بخطوط أخرى، الأمر الذي لم يغب عن ملاحظة الفتى القروي اليانع، الذي كانه طه، فكان يتوجه إلى والده بالسؤال عن أنواع الخطوط ليأتيه جواب والده «هذا عمل الخطاطين في المدن» ما بذر فيه الرغبة القوية لزيارة أصحاب الصنعة المثيرة والتعرف إليهم عن كثب.
ويضيف طه أنه بعد أن قام والده بتسجيله في المرحلة الابتدائية بمدينة حلب في سورية، انتهز الفرصة الأولى المواتية ليسأل عن الخطاطين ويذهب إليهم في أوقات فراغه، وكان يبقى في دكاكينهم ومشاغلهم حتى الليل مراقبا كيف يعملون والأدوات التي يستخدمونها.
يقول طه «حفظت القرآن الكريم منذ الصغر بحكم تربيتي في عائلة متدينة، وعلى الرغم من أن كتابة المصحف هي أمنية غالية لدى أي خطاط، عندما ينضج فنيا وعلميا ليبقى خلاصة عمله وذكرى يخلدها الزمن، فإنني لم أجرؤ على ذلك قبل سن الـ30 وبعد أن تسلحت بشهادة جامعية في علوم اللغة العربية وعلوم القرآن الكريم والشريعة، وبعد أن درست الرسم والزخرفة والخط العربي في معاهد فنية في دمشق». ويقول طه، إنه بعد إنهاء مرحلة الإعداد العلمي وبلوغه الثلاثين كلف رسميا في عام 1970 بكتابة مصحف لوزارة الأوقاف السورية بإيعاز من رئيس الجمهورية آنذاك. ليقوم بذلك للمرة الأولى متهيبا، ويصف طه المرحلة التي تلت ذلك بقوله «بعد كتابة المصحف الأول تملكتني حالة من الرهبة، وبذلت أقصى جهدي، وعلى الرغم من أنه كان موضع إعجاب القراء فإنني كنت أتوق دائما إلى كتابة المصحف مرة أخرى وبطريقة أتفوق فيها على نفسي، وبعدها كتبت ثلاثة أو أربعة مصاحف أخرى في دمشق».
إلا أن المرحلة الأكثر إثارة والأكثر إنجازا وإبداعا بالنسبة لطه بدأت بعد تقاعده من الوظيفة، حيث قدم إلى المملكة العربية السعودية في عام 1988م، بعد أن تم طلبه من قبل الجهات المعنية عن طباعة المصحف الشريف، وتم الاتفاق على أن يكون خطاطا في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، وبدأ بالفعل منذ ذلك الوقت عمله في المجمع وكتب المصاحف التي طلبها منه المسؤولون في وزارة الأوقاف في المملكة، بإشراف وزير الأوقاف والأمين العام للمجمع، وهناك كوادر علمية ولجان علمية تشرف على المخطوط وتراجعه قبل الطباعة.
ويقول طه «كتبت أكثر من 10 مصاحف منذ التحاقي في المجمع حتى الآن والمصاحف التي صدرت عن مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة رسم لفظها بخط يدي، وقد كتبت هذه المصاحف برواية حفص التي يقرأها أهل المشرق العربي، ومصحف آخر برواية ورش لبلاد المغرب العربي، ومصحف برواية قالون لليبيا والنيجر ونيجيريا ومالي، وآخر برواية الدوري لأواسط أفريقيا السودان، والصومال، وبقية الدول في أواسط أفريقيا، وكلها تمت مراجعتها وطباعتها وتوزيعها كهدية من خادم الحرمين الشريفين للمسلمين في كل هذه المناطق».
الوقت الذي يتطلبه طه لكتابة المصحف هو وقت طويل، وكما يقول «كنت أعتني كثيرا بالمصاحف التي أكتبها لأنها للعالم الإسلامي فلا مجال للسرعة، والإتقان هو المطلب الأول، وكان يستغرق مني نحو العامين والنصف للانتهاء من كتابة كل مصحف وقد تطول المدة لتبلغ ثلاثة أعوام للمراجعة والتدقيق.
أما الأسلوب الذي يتبعه في عمله فهو نمطي لا يتغير، يبدأ عمله يوميا في الساعة الثامنة صباحا لينتهي في الساعة الثانية ظهرا، ويتابع عمله في اليوم التالي في مكتب فسيح حسن الإضاءة، تم توفير كل ما يخطر بباله ويتطلبه فيه، ويمكن أن ترى طه حينما تدخل إلى مكتبه منحنيا على إحدى الطاولات يخط بعناية وبخشوع يجعله لا يشعر بك أبدا وحوله أدواته وأقلامه من كل الأحجام ومحبرته، يقول طه «أخط المصحف الشريف على طاولة خاصة تتحرك بزوايا معينة حتى أرتاح في الكتابة وأظل أخط عليها وأنا منحني عليها قليلا، ولا بد أن تأتي الإضاءة من اليسار ليكون الضوء من أمام القلم حتى لا أرى ظله ويزعج عيني عند الكتابة».
أما عدة الخط عند طه فهي عدة أنواع من الأقلام هناك أقلام معدنية، وخشبية، وأقلام من القصب أو الخوص وهي بأحجام مختلفة بعضها صغير جدا ليتمكن من كتابة الخط المطلوب بدقة متناهية. وفيما يتعلق بالحبر، فهو يستخدم الحبر الصيني شديد السواد، والمقاوم لعوامل الطبيعة، بحيث أن المخطوطة يمكن أن تبقى لآلاف السنين دون أن تتأثر عند الحفاظ عليها بشكل جيد، ويحدث أحيانا أن ينسكب الماء على المخطوطة دون أن يتأثر الخط تماما كما يقول طه. ومعظم هذه الأدوات تم إجراء الكثير من التجارب العملية عليه لتكون المحصلة النهائية مخطوطة مرسومة بمنتهى الإتقان والجمال وكأنها طبعت طباعة.
وعن طقوسه الشخصية، في محترفه الفني «مكتبه داخل المجمع» يقول طه «لي طقوسي الخاصة: أولا الانعزال أثناء الكتابة حيث أبقى في مكتبي معتصما لا يدخل أحد إليه إلا للضرورة القصوى، وأكون دائما متوضئا لأني لا أستطيع كتابة كلام الله إلا على طهارة كاملة، وأثناء الكتابة قد أغيب في معاني الآيات الكريمة دون أن أشعر بما حولي، ولي عادة أنني لا أشرب القهوة ولا الشاي وأبقى في وضعي هذا ساعات طوال، الأمر الذي حدا بزملائي والقريبين مني إلى تسميتي «أيوب» لصبري الطويل الذي تعلمته من الخط».
ورغم حفظه للمصحف الشريف، فإن طه لا يكتب من دون مصحف مفتوح أمامه، ومع هذا فإن حفظه للقرآن يساعده في ترتيب الكلمات في السطر الواحد وترتيب الأسطر في الصفحة الواحدة لينتهي السطر كما بدأ تماما في منتهى الإتقان. أما حينما أبدأ بتشكيل المصحف الشريف فلا أنظر وإنما أشكله بداهة دون أي خطأ.
طه الذي رزق بأربعة أولاد وثلاث بنات، لم يورث موهبته إلا لابنه الأصغر أحمد، مهندس الكومبيوتر وهو الوحيد الذي ورث أبيه في موهبة الخط والرسم، إلا أنه مال أكثر للكومبيوتر واستخدامه في زخرفة القرآن الكريم، الأمر الذي يفسره والده راسم المصحف الشريف بأنه ناجم عن أن الخط يحتاج إلى دقة وصبر لا متناه، وهي صفات لا تتوافر في الجيل الجديد الذي لا صبر عنده وهو يتسم بالسرعة في عمله وكلامه واعتماده على الأجهزة الحديثة كالحاسب الآلي، ما يحرمهم من روحانية الخط اليدوي الخاصة.
ولا يحزن طه أن الكثير من الناس قد لا يعرفون اسمه، بل يقول إن معظم من يصادفهم لا يصدقون أن المصحف الشريف هو بخط اليد أصلا، ويظنون أنه مطبوع، وهو يقول إن هذا لا يعنيه كثيرا فهو يعمل لله ويدعوه دائما أن يتقبل منه عمره الذي مضى في كتابة آياته الكريمة.
وإلى جانب كتابته للمصحف الشريف يجيد طه كل أنواع الخطوط، ولديه آلاف اللوحات الجميلة التي يمكن أن تملأ متاحف ومعارض العالم الإسلامي، كما يقول فهوايته هي الكتابة، وهو لا يخرج من منزله كثيرا، وهو يعشق بشكل خاص خط الثلث أو «ملك الخطوط» كما يحلو له تسميته، وفي لوحاته يكتب طه الآيات القرآنية التي تعلم الناس الأخلاق وأصول الحياة في المجتمع الإنساني، والأحاديث النبوية الشريفة والحكم والأقوال المأثورة من الأدب العربي.
وعن الخطوط التي يكتب بها يقول طه، «الخطوط قديما كانت كثيرة جدا ولكنها اختصرت إلى خمس أو ست أنواع في العصر العباسي عن طريق ابن مقلة وأجملها على الإطلاق هو خط الثلث، وهو خط كبير ضخم تشعر بالعظمة والكبرياء عندما تشاهده ومن لا يكتب هذا الخط لا يعتبر خطاطا وبعده يأتي خط النسخ وهو عبارة عن منمنات صغيرة وجميلة جدا وعندما يجتمع هذان الخطان تشعر وكأنك أمام جبل عظيم يجري فيه نهر رقراق. وأنا أكتب المصحف بخط النسخ لصغر حجمه وسهولته وترتيبه وراحته للعين، وقد غيرت في كتابة المصحف الكثير من قواعد هذا الخط. وهناك الخط الديواني، والفارسي وهو خط جميل لكن دون تشكيل. وعند سؤاله عما إذا كان راغبا في عرض هذه اللوحات ضمن معارض عالمية يقول طه فورا «ليس لدي أوقات فراغ ولوحاتي وإن كانت تكفي لـ20 معرضا فنيا إلا أنني غير مهتم بالمشاركة ضمن المعارض، برغم كوني أشارك كمحكم دولي في المسابقة الدولية التي تجرى في أسطنبول كل ثلاث سنوات، وهي أهم مسابقة دولية في الخط العربي. إلا أنني وضعت خلاصة موهبتي وعلمي وخبرتي في مصحف رواية حفص الصادر عن مجمع الملك فهد بالمدينة وأنا أعشقه كثيرا وأحمد الله أن أعانني على كتابته بهذا الجمال والإتقان».
أما الأمنية الوحيدة التي تراود خياله دائما فيقول طه منهيا حديثه «كلما أنهيت كتابة مصحف تاقت نفسي إلى كتابة مصحف آخر ليكون أجمل منه».