إن النفوس لا يحركها أي كلام ، ولا يهزها، أي حديث لأن الله خلقها عارفة مميزة، تفرق بين الجميل والقبيح والجيد والرديء، والشعراء درجات في اقتدارهم علي مخاطبة النفوس، وأظن المتنبئ بلغ الغاية في إلهاب نفوس سامعيه، وتحطيم الحواجز بينه وبين محبيه، لقد سبقه كثير من الشعراء إلي تلك المعاني التي جاد بها ، لكنه كساها رونقاً وحياة ومتعة فهذا أبو تمام يذكر المصلحة من المصائب بقوله:
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
لكن المتنبئ يسوقها في هذه التحفة الرائعة:
ومن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
فيطوف بعالم المعني الشمل الأعم في لفظ مترقرق بهيج.
ويقول شاعر إيران السعدي الشيرازي
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخري بالبكى بخلت علينا
فعاقبت التي بالمدع ضنت بأن أغمضها يوم التقينــا
لكن المتنبئ سبقه فحفر في ذاكرة الأجيال، ونقش في ضمائر الناس قوله:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي
ويقول دانتي شاعر إيطاليا: إن السخفاء يجدون لذة في تتبع عثرات العظماء، ولكن المتنبئ يتفوق عليه ببيته الذائع المهيمن:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
وميزة المتنبئ كما اسلفت تفجعه وتحرقه بما يقول، وانصهار روحه بمعاناته، وذوبان حشاشته بقضاياه يقول: واحر قلباه، ثم يسكت، فكأن قلبه يريد أن يغادر محله، وكأن ضلوعه تريد أن تنقض ، ويقول:
أصخرة أنا مالي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريد
فتشعر أن الرجل حلت به أزمة طاحنة، وكربة ساحقة ، وبلية ماحقة، ويصيح باكياً:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منتـــ ـه وإن سر بعضهم أحيانا
تسمع هذا فتحس بتعاطف وتضامن معه، فتشاركه هذا الأنين المكبوت، والعبرة المسفوحة، ويضج بحاله ويضيف من عيشه فينفجر شاكياً:
أما تغلط الأيام في بأن أري بغيضاً تنائي أو حبيباً تقرب
فتعتقد أن الرجل ضاقت به الأرض بما رحبت لما اعتراه من هموم وغموم، وتشاهد لوحة من لوحاته الحزينة وإذا به يرسم فيها:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
ولكنه وللأسف لم يحظ بنيل حظوظه، وإدراك رغباته، لأن مقاصده تنعكس، ومرارته تتقلب خاسئة حسيرة إليه، ويرثي أحد أصحابه فيبدأ البكاء بقوله:
الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصي طيع
فتجد مع ألم المصيبة روحاً وثابة، وهمة جامحة، ونفساً صامدة، ولكنها موجعة منهكة.
ويحتج علي الحمي ويصيح في وجهها:
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام
فإذا الرجل مضرس بالأنياب ، مجرح بالمخالب ، تنهشه النوائب من كل جهة كما يقول::
رماني الدهر بالأزراء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا اصابتني سهام تكسرت النصال علي النصال
فهو يحسو كأس المعاناة قطرة قطرة، ويتجرع غصص الكربات غصة غصة، وسامحه الله، ليته رد الأمر إلي فاطر السماوات والأرض، وسلم له أمره وردد )قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا)(التوبة: الآية51)إن الناس ليسوا بحاجة إلي كلام بارد ثقيل، يطفئ جذوة الخاطر، ويميت إشراق النفس، لكنهم بحاجة لم يترجم مآسيهم، ويشاركهم أحزانهم، ويعزيهم في مصابهم، ويخفف عليهم من ويلاتهم:
ولابد من شكوى إلي ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
إن الشعر التقريري الإخباري أشبه بأخبار الطقس ، وأقام الأسعار ، ودرجات الحرارة )وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) (صّ:34) .
إن المتنبئ عاش نعمة الألم، ولذة المعاناة، وسرور الحرمان فقال:
ذو العقل يشقي في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فلا حياة الله لذة في جهل، ومتعة في ذل، وحياة في خضوع، ومرخباً بموت علي عز، ومصيبة علي كرامة، وتضحية معها مجد، يقول هو:
جزي الله المسير إليك خيراً وإن ترك المطايا كالمزاد
فكل مشقة في سبيل هينة، وكل تعب من أجل المجد راحة، يقول:
يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
فما دام العرض مصون ، والعقل محفوظ، فجرح الجسم سهل يسير.