في ظلال الهجرة النبوية
بعد أن نجحت بيعت العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة وَقبِل الأنصار أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم.. بعد كل هذه الأمور العظيمة، والتي حدثت في فترة وجيزة جدًّا.. جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة..
كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر.. بل يجب أن يهاجر..
يستوي في ذلك الضعفاء والأقوياء.. الفقراء والأغنياء.. الرجال والنساء.. الأحرار والعبيد..
الكل يجب أن يهاجر إلى المدينة.. فهناك مشروع ضخم سيُبنى على أرض المدينة.. وهو مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين.. هذا هو مشروع إقامة الأمة الإسلامية!..
ولن يسمح لمسلم صادق بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم..
انظروا إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
الهجرة لم تكن أمراً سهلاً ميسوراً.. الهجرة لم تكن ترك بلد ما إلى بلد ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، (ليست عقد عمل بأجر أعلى).. الهجرة كانت تعني ترك الديار.. وترك الأموال.. وترك الأعمال.. وترك الذكريات.. الهجرة كانت ذهابًا للمجهول.. لحياة جديدة.. لا شك أنها ستكون شاقة.. وشاقة جدًّا.. الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة.. حرب شاملة.. ضد كل المشركين في جزيرة العرب.. بل ضد كل العالمين.. الحرب التي صوّرها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه على أنها الاستعداد لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة.. ليست هروباً ولا فراراً، بل كانت استعداداً ليوم عظيم.. أو لأيام عظيمة..
لذلك عظّم الله جدًّا من أجر المهاجرين.. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة.. فلم يكن من همه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، وأن يحافظ على أمواله.. إنما كان كل همه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين.. كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالربّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على كل الركاب أنهم في أمان.. فالقيادة عنده ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية.. إنما القيادة مسئولية وتضحية وأمانة.
ملامح الهجرة الهامة
(1) الاهتمام بقضية النية:
روى البخاري عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
ومع أن الهجرة للزواج ليست محرمة.. ومع أن الهجرة لإصابة الدنيا الحلال ليست محرمة.. لكن هذه هجرة ليست كالهجرة لبناء أمة إسلامية.
وهيهات أن يكون الذي ترك كل ما يملك ابتغاء مرضات الله وسعيًا لإنشاء أمة إسلامية ورغبةً في تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض.. كالذي عاش لحياته فقط.. وإن كانت حياتُه حلالاً.
(2) الهجرة الكاملة لكل المسلمين لم تكن إلا بعد أن أُغلقت أبواب الدعوة تمامًا في مكة.. وقد أغلقت أبواب الدعوة منذ ثلاث سنوات.. بعد موت أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها.. ومنذ ذلك التاريخ، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطط للهجرة.. وكان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفًا عن المدينة لو آمن وفد من الوفود التي دعاها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام مثل بني شيبان أو بني حنيفة أو بني عامر، ولكن الله عز وجل أراد أن تكون الهجرة إلى المدينة المنورة.. فليس المهم هو المكان، ولكن المهم هنا ملاحظة أن الهجرة لم تكن نوعًا من الكسل عن الدعوة في مكة، أو "الزهق" من الدعوة في مكة.. أبدًا.. الدعوة في مكة من أول يوم وهي صعبة، ولكن ما ترك المسلمون بكاملهم البلد إلا بعد أن أُغلقت تمامًا أبواب الدعوة.. أما إذا كانت السبل للدعوة مفتوحة -ولو بصعوبة- فالأولى البقاء لسد الثغرة التي وضعك الله عز وجل عليها.
(3) الهجرة كانت للجميع، وذلك على خلاف الهجرة إلى الحبشة والتي كانت لبعض الأفراد دون الآخرين.. والسبب أن طبيعة المكان وظروفه تختلف من الحبشة إلى المدينة.. فالمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا يريدون حفظ أنفسهم في مكان آمن حتى لا يستأصل الإسلام بالكلية إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة.. ولم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة، بل كان المسلمون مجرد لاجئين إلى ملك عادل.. أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
ولماذا تصلح المدينة لإقامة الأمة الإسلامية ولا تصلح الحبشة؟ إن هذا ليس راجعاً إلى عامل البُعْد عن مكة واختلاف اللغة واختلاف التقاليد فقط، وإن كانت هذه عوامل هامة، ولكن الاختلاف الرئيسي -في نظري- هو أن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد هو النجاشي -ملك لا يظلم عنده أحد- فإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم.. وقد كاد أن يحدث ذلك، ودارت حرب أهلية كاد النجاشي فيها أن يفقد ملكه، فما كان من النجاشي إلا أن يسر سبيل الهروب للمسلمين المهاجرين عنده.. فهو لا يملك لهم إلا هذا.. هذا كان الوضع في الحبشة.. أما في المدينة المنورة فالهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين.. بل تعتمد على شعب المدينة.. والجو العام في المدينة أصبح محبًّا للإسلام.. أو على الأقل أصبح قابلاً للفكرة الإسلامية، ومن ثَم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية كاملة..
(4) الهجرة لم تكن عشوائية، بل كانت بأمر القيادة إلى مكان معين.. وهذا الذي أدى إلى نجاح الهجرة، وقيام الأمة.. أما أن يهاجر فلان إلى مكان كذا، ويهاجر آخر إلى مكان كذا.. ويتفرق المسلمون.. فهذا وإن كان يكتب نجاة مؤقتة للأفراد، إلا أنه لا يقيم أمة.. وعلى المسلمين الفارين بدينهم من ظلم ما أن يفقهوا هذا الأمر جيدًا..
الهجرة النبوية إلى المدينة كانت هجرة منظمة مرتبة.. أُعد لها بصبر وبحكمة وبسياسة وفقه.. فالعشوائية ليست من أساليب التغيير في الإسلام.
(5) بهذه الهجرة الناجحة تمت مرحلة هامة -بل هامة جدًّا- من مراحل السيرة النبوية.. وهي المرحلة المكية..
لقد تمت هذه المرحلة بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها..
وهي مرحلة ذات طابع خاص جدًّا..
بدأ الإسلام فيها غريباً.. واستمر غريباً إلى قرب نهايتها.. إلى أن آمن الأنصار.. رضي الله عنهم ورضي الله عن المهاجرين.. وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين..
كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة.. فلا يؤمنون بإله غير الله.. ولا يتوجهون بعبادة لأحد سواه.. ولا يطيعون أحداً يخالف أمره.. وهم يتوكلون عليه.. وينيبون إليه.. ويخافون عذابه.. ويرجون رحمته..
إيمان عميق برب العالمين.. وإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبإخوانه من الأنبياء و المرسلين..
واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون.. سيقوم فيه الناس لرب العالمين يحاسبون على ما يعملون.. لن يُظلم في ذلك اليوم أحد.. لن تُغفل الذرة والقطمير.. إنها والله إما الجنة أبداً أو النار أبداً..
وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة الأخلاق الحميدة، والخصال الرفيعة.. هذبت نفوسهم.. وسمت بأرواحهم.. وارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض.. إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.. لقد نزل الميزان الحق الذي يستطيع الناس به أن يقيموا أعمالهم بصورة صحيحة..
وعرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب.. مليء بالابتلاءات والاختبارات.. ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر.. تعب كلها الحياة.. والله يراقب العباد في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم.. ولن يُستثنى أحد من الاختبار.. ويُبتلى المرء على حسب دينه.
لقد كانت الفترة المكية يا إخواني بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل.
ومن المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبَدْر وكالأحزاب وكخَيْبر وكتَبوك، دون المرور على فترة مكة..
ومن المستحيل أن تبنى أمة صالحة.. أو تنشأ دولةً قوية.. أو تخوض جهاداً ناجحاً.. أو تثبت في قتال ضار.. إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها..
وعلى الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق.. وعليهم أن يقفوا أمام كل حدث ـ وإن قصر وقته أو صغر حجمه، وقوفاً طويلاً طويلاً..
فهنا البداية التي لا بد منها..
وبغير مكة لن تكون هناك المدينة..
وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار..
وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين..
(6) الهجرة – وإن كانت حدثاً تاريخياً مر منذ مئات السنين، ولا يستطيع أحد بعد جيل المهاجرين أن يحققه، وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" – إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فتح باب العمل للمسلمين الذين يأتون بعد ذلك، فقال في نفس الحديث: "وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، فالجهاد والبذل والحركة والعمل في سبيل الله لن يتوقف أبداً في الدنيا، والسعيد حقاً هو من انشغل بعمله عن قوله، وبنفسه عن غيره، وبآخرته عن دنياه.
(7) أول مراحل الهجرة هي ترك المعاصي، والبُعْد عن مواطن الشبهات، ولن ينصر الدين رجل غرق في شهواته، والمعروف أن ترك المعاصي مقدم على فعل فضائل الأعمال، والإنسان قد يُعذر في ترك قيام أو صيام نفل أو صدقة تطوع، لكنه لا يُعذر في فعل معصية، وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"؛ ولذلك عرف الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجر الحقيقي بتعريف عميق من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فقال فيما رواه أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: "إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".