تابعت باهتمام الحلقة الأولى من برنامج (صناعة الموت) وهو برنامج إعلامي (متعوب عليه) قامت بإنتاجه قناة عربية كبيرة، وهو من نوعية البرامج الإعلامية التي تضع الفرضية في المقدمة ثم تحاول بعد ذلك تجييش كم هائل من المعلومات والإمكانيات الكبيرة لكي تقنع المشاهد بصحة الفرضية ولكي تظهرها كحقيقة دامغة راسخة الثبوت في إطار خدمة غرض او هدف سياسي معين ، وهي تفعل ذلك حتى لو كان المنطق والتفكير السليم للإنسان العادي لا يتقبل تلك الصناعة وذلك العمل الذي يبدو مفبركا وغير مقنع حتى لأصحابه من الكوادر الإعلامية الموظفة في اخراجه كما هو مطلوب له ان يظهر.
برنامج (صناعة الموت) بدا في جزء منه نوعا من (صناعة الكذب) للأسف الشديد.. واعني تحديدا ذلك الجزء المتعلق بإقحام (قضية الجنوب) وهي قضية مقدسة لدى الملايين من أبناء الجنوب العربي ، في خضم قضايا أخرى حاضرة على الساحة السياسية اليمنية كقضية الحوثيين وقضية تنظيم القاعدة ، وكان هدف البرنامج وبأي طريقة إقناع المشاهد العربي بوجود علاقة سرية او حتى ظاهرة مابين القاعدة والحوثيين والحراك الجنوبي ! .. حتى ان المذيعة تعمدت في مهمة صناعة الكذب الموكلة إليها، استحضار مصطلح مات وشبع موتا في عقر داره ناهيك عن الجنوب وهو مصطلح (الشيوعيين)!! فتساءلت بدهشة مصطنعة كيف يمكن ان يوجد تحالف مابين (الشيوعيين) في الجنوب وتنظيم القاعدة ؟! .. ثم كان على صاحب شهادة الدكتوراه (الضيف الكريم) ان يضع مسألة احترام عقل المشاهد العربي ناهيك عن الحقيقة ذاتها على الرف، لكي يرد على ذلك التساؤل مفسرا ومعللا بقوله أن تقاطع المصالح هو الذي انتج هذا النوع من التحالف! وان السياسة التي لا توجد فيها صداقة دائمة وإنما مصالح دائمة هي المسؤولة بشكل مباشر عن ذلك النوع الغريب من التحالف، حد تعبيره!
ان هذه المهمة التي تورط فيها المثقف العربي بالحديث عن الشيوعيين في الجنوب (كذبا وظلما وعدوانا) في هذا الوقت مطلع القرن الواحد والعشرين - تتساوى تماما من حيث الاستخفاف بالعقل والمنطق وحتى الضمير، مع المهمة التي تورط فيها رجل الدين الشهير الدكتور عبدالوهاب الديلمي في فتواه الشهيرة التي أطلقها أثناء حرب الشمال على الجنوب صيف العام 1994م والتي (أباح) بموجبها استباحة دماء وأموال وأرواح أبناء الجنوب من قبل جنود الشمال باعتبار الحرب الدائرة حينها ، حرب ما بين جيش الإسلام من جهة وجيش الشيوعيين (الملحدين) من جهة أخرى !! .. وهي فتوى انتقدها بشدة ، شيوخ دين أجلاء في المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية والإسلامية في ذلك الوقت، وحملوا جميع ما تبعها من أعمال إجرامية في حق أبناء الجنوب الشيخ الديلمي نفسه ، وبقيت تلك الفتوى تطارد الديلمي في ليله وفي نهاره، وفي حله وترحاله حتى تحولت إلى عقاب عادل ساقه الله عليه لا يستطيع الانفكاك منه ما حيي.
ان الحديث عن الشيوعيين في الجنوب اليوم في برنامج (صناعة الموت) وبعد خمسة عشر عاما من تلك الفتوى الدينية المسيسه، هو حديث مماثل للوظيفة السياسية لتلك الفتوى في جانب منه وهو حديث ظالم وجائر في حق شعب يستبسل اليوم في ملحمة نضالية منقطعة النظير من اجل حريته وكرامته وسيادته على ترابه الوطني، الذي يستكثره عليه صناع برنامج (صناعة الموت) .. كما انه طرح لا يخجل عن وصم قرابة أربعة ملايين نسمه من أبناء الجنوب المسلمين بمــــثل تلك التوصيفات المؤلمة والموجـــعة للنفس، والــــحديث بتلك الطريقة وبذلك الأسلوب يعتبر استخــفاف كبير في حق هذا الشعب العربي العريق واستهانة بتضحياته الجسيمة التي قدم فيها عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمعتقلين .
ومن جانب آخر فان (الصوفي) الضيف اليمني في البرنامج وهو المثقف المتصوف في القصر الجمهوري، يعلم أكثر من غيره حجم صناعة الكذب التي اعتمدت من قبله شخصيا خاصة حينما جرى الحديث عن علاقة (القاعدة) بالحراك الجنوبي، وهو ربط بالمناسبة لا يجد له مدخلا الا من خلال الحديث عن (شخص) الشيخ طارق الفضلي الذي اختار بإرادته الوطنية المستقلة ان يكون الى جانب شعبه في الجنوب، طارحا الى غير رجعة عباءة سلطة الاحتلال التي ارتداها منذ عودته الى بلاده عقب الوحدة اليمنية حتى يوم إعلانه الانضمام الى جانب قوى الحراك الجنوبي مطلع هذا العام.
والأكيد في الأمر، ان الصوفي يعلم علم اليقين، كيف تم توظيف الشيخ الفضلي سابقا في سياق التناقضات الجنوبية الجنوبية، وكيف استغل هو وجماعاته في حرب صيف 1994م كي يقاتل ضمن ما سمي يومها بقوات الشرعية (قوات الجمهورية العربية اليمنية).. ويعلم الصوفي أيضا ان الفضلي، قد ارتبط بعد تلك الحرب بعلاقات حميمة مع أركان النظام في صنعاء، حيث غدا صهرا لعلي محسن الأحمر الأخ غير الشقيق لعلي عبدالله صالح، وكان عضوا في اللجنة العامة للحزب الحاكم حزب الرئيس المؤتمر الشعبي العام .. لكن أحدا من أركان النظام او من زبانيته او من 'المتصوفين' في محرابه، لم يتحدث نهائيا عن علاقة الشيخ طارق الفضلي بتنظيم القاعدة في ذلك الوقت !! فكيف بهم يتحدثون اليوم عن هذه العلاقة 'السراب' التي لا وجود لها إلى برامج متخصصة في صناعة الكذب.
عندما تشاهد مثل هذا البرنامج (صناعة الموت) .. وحينما تقرأ الكثير من المقالات السياسية التي تنهمر علينا من كل حدب وصوب وهي تحمل ذات البنية الفكرية والأهداف السياسية، وحينما تشعر بأن هناك تكالبا جماعيا ضد الحق الجنوبي من قبل اكثر من طرف وأكثر من جهة، وحينما تعلم وتدرك ان جميع ذلك يأتي في إطار حرب المصالح المحتدمة في المنطقة ككل .. تشعر حقيقة بالأسف وبالألم، لكن هذا الشعور يخرجك الى ساحة المواجهة بطريقة سريعة وأنت أكثر قوة وصلابة وتمسكا بحقك الشرعي في الوجود وفي الحياة، وحينما تقع عيناك على مشاهد حقيقية لملحمة الثورة الجنوبية وتشاهد الجبال وقد تغطت وتسربلت بجماهير الجنوب وهي تودع وتشيع شهداءها لتقدم مشهدا رائعا من مشاهد شعب (يصنع الحياة) .. يصبح من صميم واجبك الوطني (الانتصار) لهذا الشعب العظيم ولهذا الحق الشرعي ... ويكون من حقك أيضا ان تعتمد على لغة السياسة التي تقول ان هناك مصالح دائمة لا صداقات دائمة ... مع يقيننا ان الله عز وجل دائما وابدا ينتصر للحق لأنه الحق .. وعلى شعب الجنوب ان يتيقن بأن (نصر الله) قريب.
' كاتب وناشط سياسي جنوبي
- القدس العربي