ملتقى جحاف -عدن برس :
توفرت للوحدة اليمنية عند قيامها في الـ22 من مايو/أيار 1990 العديد
من عوامل النجاح، وذلك على العكس من كل محاولات التوحد التي شهدها العالم
العربي خلال القرن العشرين. لكن الوحدة التي تعد الحكومة اليمنية للاحتفاء
بالذكرى الـ20 لقيامها خلال شهر مايو/أيار القادم تواجه اليوم أخطر أزمات
عمرها القصير.
فالشعب
الذي عاش موحدا في ظل التجزئة السياسية والجغرافية بدأت عوامل التجزئة
تنخر في نسيجه رغم وحدة الجغرافيا والسياسة، وبات الجنوبي يسمى "انفصاليا"
في الشمال والشمالي يسمى "مستعمرا" في الجنوب. وفي حين يخرج الجنوبيون
بالآلاف إلى شوارع الجنوب مطالبين بفك الارتباط، تحشد الحكومة اليمنية
الآلاف من قوات الجيش والأمن لقمعهم.
ويحاول
هذا المقال، وفي ظل التصعيد المتبادل بين الحكومة اليمنية والحراك
الجنوبي، الإشارة إلى ما يسمى بـ"جذر الأزمة اليمنية"، ومناقشة ثلاثة
سيناريوهات محتملة للتطور المستقبلي على ضوء معطيات الماضي ومستجدات الحاضر.
جذر الأزمة
يتسم المجتمع
اليمني ككل، وعلى مستوى الشمال أو الجنوب، بالتعدد على خطوط قبلية وعرقية
ومذهبية وفئوية ومناطقية. وقد أدت تلك البنية مع عوامل أخرى إلى نمط تاريخي
لمركزة السلطة يقوم -كما تذهب إلى ذلك لجنة الحوار الوطني اليمنية في
وثيقتها المسماة "مشروع رؤية للإنقاذ الوطني" والتي أطلقتها في
سبتمبر/أيلول 2009- على "الحكم الفردي الاستبدادي المستند إلى عصبوية
سياسية سعت دوما إلى تكريس المركزية غير المؤسسية كذريعة وغطاء لتبرير
احتكارها العصبوي لمصادر القوة ومفاصل السلطة وموارد الثروة."
وترى لجنة الحوار الوطني -التي
تضم أحزاب المعارضة الرئيسية في اليمن، بما في ذلك الحزب الاشتراكي اليمني
الذي شارك في تحقيق الوحدة، والتجمع اليمني للإصلاح الذي شارك في الدفاع
عنها في عام 1994، والمستقلين وقيادات بارزة في الحزب الحاكم أو محسوبة على
السلطة- في مشروع رؤيتها، أن ذلك النمط التاريخي لمركزة السلطة شكل
"المعضلة والأزمة التي أهدرت حق الأمة في السلطة، ومقدرات البلاد البشرية
والمادية، وكرست عوامل التخلف والضياع".
لقد
كانت نضالات اليمنيين وتضحياتهم خلال معظم سنوات القرن العشرين تهدف، كما
يجمع الكثير من المؤرخين والمفكرين وكتاب مشروع رؤية الإنقاذ، إلى تخليص
البلاد من الحكم الفردي العصبوي والدولة المشخصنة والمركزية الجامدة
والتجزئة، وإقامة دولة المواطنة المتساوية.
وقد
بلغ نضال اليمنيين ذروة نجاحه بقيام الوحدة اليمنية بطريقة سلمية وعلى
قاعدة الديمقراطية والشراكة الوطنية. وفي الوقت الذي تختلف فيه القوى
السياسية اليمنية في توصيف ما حدث خلال السنوات الأربع الأولى لقيام الوحدة
(1990-1994)، وحول تحديد الطرف المسؤول عن اندلاع حرب عام 1994، فإن
الغالبية من اليمنيين، بما في ذلك بعض القوى في السلطة، تتفق على أن
المشاكل التي تعاني منها الوحدة والتهديدات التي تواجهها، تنبع من حرب عام
1994 ومن التطورات التي تلتها. فالحرب ذاتها استبدلت -كما يذهب إليه
الجنوبيون والكثير من الشماليين- الوحدة السلمية القائمة على الشراكة في
السلطة والثروة بوحدة القوة والغلبة والضم والإلحاق.
وتذهب
لجنة الحوار الوطني في مشروع رؤية الإنقاذ إلى أن التمرد الحوثي في الشمال
والحراك الانفصالي الواسع في الجنوب، والفساد الكبير المستشري في أجهزة
الدولة والاقتصاد اليمني الذي أصبح على حافة الانهيار، وغير ذلك من الأزمات
والتحديات والأوضاع المتردية، تمثل كلها نتاجا للحكم الفردي العصبوي
المستبد والدولة المشخصنة.
وترى
أن ما حدث في أعقاب حرب عام 1994 هو أن السلطة الفردية استعادت "وبصورة
ممنهجة هيمنتها الاستبدادية، مستدعية موروث الأزمة التاريخية بكل مكوناتها
العصبوية ونزعاتها الاستعلائية الإقصائية"، وجرى -كما جاء في المشروع-
"تحويل الدولة من مشروع سياسي وطني إلى مشروع عائلي ضيق يقوم على إهدار
نضالات وتضحيات أبناء اليمن، والقفز على مكتسبات وأهداف الثورة اليمنية
للاستحواذ الكامل على السلطة، والاستئثار بالثروة".
وفي حين يمثل مشروع رؤية الإنقاذ
أبرز وأجرأ اقتراب تحليلي من المنبع التاريخي للصراع والتمزق وغياب
التنمية والاستقرار على الساحة اليمنية، فإن الحكومة اليمنية لم تتمكن حتى
الآن من تقديم رؤية فكرية متماسكة تفسر وتحلل أزمات اليمن الحالية، وفي
مقدمتها أزمة الوحدة وسبل الخروج منها.
وفي
حين تراهن الحكومة اليمنية على احتواء أزمة الوحدة عن طريق قمع الحراك،
يصر قادة الحراك على المضي قدما في حركتهم الاحتجاجية حتى تحقيق الاستقلال،
ويبدو أن السيناريو المطلوب والأكثر احتمالا في التحقق هو سيناريو
المراجعة والإصلاح.
سيناريو
القمع
دأبت الحكومة اليمنية منذ اندلاع
الحراك في منتصف عام 2007 على الجمع بين سياسات العصا والجزرة، لكن تطورات
الأوضاع منذ منتصف فبراير/شباط المنصرم تشير إلى أنه لم يبق في جعبة
الحكومة اليمنية -في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتسويف المانحين في
مسألة تقديم الدعم- سوى توظيف سياسة العصا.
وقد شهدت الفترة الماضية -وخصوصا
منذ إيقاف الحرب في صعدة في منتصف فبراير/شباط الماضي- تصعيدا متبادلا بين
الحكومة من جهة ودعاة فك الارتباط من جهة أخرى. وبالنسبة للحكومة، فقد حشدت
قوات الجيش والأمن إلى المناطق الملتهبة في الجنوب وخصوصا محافظات الضالع
ولحج وأبين، وقطعت الاتصالات اللاسلكية عن تلك المحافظات وطاردت ونفذت
حملات اعتقالات واسعة ضد الصحفيين والناشطين وقادة الحراك، ووظفت محاكم غير
دستورية لتنفيذ محاكمات شكلية تنتهي بإصدار أحكام مغلظة، لا تتناسب مع
طبيعة الاتهامات ولا تستند إلى أي نصوص دستورية أو قانونية.
وفي إطار التوظيف الأمني للقضاء
صدرت على سبيل المثال أواخر مارس/آذار الماضي وبداية أبريل/نيسان الحالي
أحكام بالسجن على عدد من قادة ونشطاء الحراك الجنوبي، حيث حكم على السفير
السابق لليمن في جمهورية موريتانيا قاسم عسكر بالسجن 5 سنوات بتهمة المساس
بالوحدة الوطنية، وحكم على الأستاذ بجامعة عدن د. حسين العاقل بالسجن 3
سنوات بعد إدانته بذات التهمة، وحكم على عمر حسن باعوم بالسجن 3 سنوات
بتهمة الإساءة إلى رئيس الجمهورية، وعلى العميد المتقاعد علي محمد السعدي
بالسجن سنة و3 أشهر. كما تبنت الحكومة خطابا إعلاميا داخليا وخارجيا ينكر
المشكلة ويعمل دون نجاح على التغطية عليها.
وفيما يتصل بالحراك، فقد صعد
المواجهة خلال الأشهر السابقة من خلال الدعوات المتكررة إلى العصيان المدني
وإغلاق الطرق والمتاجر والأسواق وتعطيل كافة الأنشطة في المدن الجنوبية.
كما لجأت عناصر محسوبة على الحراك إلى إحراق محلات تجارية مملوكة لشماليين،
وقامت في عدد من الحالات بممارسة القتل بالهوية على شماليين يتواجدون في
مناطق الجنوب، بهدف إجبارهم على مغادرة المحافظات الجنوبية.
وإجمالا، فقد خلفت المواجهات بين
القوات الحكومية من جهة والحراك الجنوبي من جهة أخرى خلال السنوات الثلاث
الماضية العشرات من القتلى من الجانبيين، والمئات من الجرحى، والآلاف من
المعتقلين سواء لفترات قصيرة أو طويلة، وعددا من الأحكام الجائرة بحق سفراء
وقادة عسكريين ومسؤولين سابقين وأساتذة جامعات.
وتذهب منظمة مراقبة حقوق الإنسان،
ومقرها نيويورك، في تقرير لها نشر في ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى أن
الحكومة اليمنية قامت في إطار مواجهة المطالبين بفك الارتباط بخلق "مناخ من
الخوف" في الجنوب واستخدام القوة القاتلة ضد النشطاء. وتشير التطورات التي
شهدتها السنوات السابقة إلى أن توظيف الحكومة للأدوات الأمنية في التعامل
مع الحراك، وتجاهلها للجوانب السياسية، قد قادا إلى تشدد في المطالب وكثافة
في الأنشطة.
وعززت
الإجراءات الأمنية للحكومة من قوة الحراك وزادت من شرعية المطالب التي
يطرحها قادته، ودفعت بالمعتدلين في صفوف الحراك أو خارجه إلى الالتحاق
بصفوف المتشددين، وأصبحت الوحدة تقترن في أذهان بعض الجنوبيين بالسجون،
بينما أصبح الانفصال معادلا للحرية.
ولا
يبدو أن سيناريو القمع قابل للاستمرار أو قادر على تحقيق ما تأمله
الحكومة، وخصوصا في ظل تفاقم المشكلة الاقتصادية وتنامي الخطر الذي تمثله
القاعدة في مناطق الحراك، وتنامي خطر عودة الحرب في صعدة، وظهور مطالبات
دولية بالتحقيق في اتهامات للحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين بارتكاب
جرائم حرب، ووجود قلق إقليمي ودولي من إمكانية انهيار الدولة اليمنية، مع
ما يمكن أن يترتب على ذلك الانهيار من مخاطر.
سيناريو
الانفصال
يزخر
جنوب اليمن بالكثير من الموارد والقليل من السكان والمشاكل، مقارنة
بالشمال الذي يزخر بالكثير من السكان والمشاكل والقليل من الموارد. وتؤدي
هذه المعادلة اليمنية المختلة سكانا وموارد إلى ظهور تاريخي لنزعتين
متناقضتين: نزعة للتوحد في ظل الانفصال؛ ونزعة للانفصال في ظل التوحد.
وترجع النزعة الثانية بشكل أساسي إلى النمط التاريخي لمركزة السلطة الذي
عاود الظهور بقوة في مرحلة ما بعد حرب عام 1994.
وفي حين يمثل
الانفصال وخصوصا في عصرنا الحالي مغذيا لحالة متكررة من عدم الاستقرار، فإن
الوحدة وعلى العكس من ذلك تمثل مفتاحا لبناء السلم على المستويين المحلي
والإقليمي.
وبالنظر
إلى ما يمثله الاستقرار في اليمن من مصلحة محلية وإقليمية ودولية، وخصوصا
في ظل تزايد المؤشرات على أن المستقبل القريب والمتوسط سيشهد احتداما لصراع
القوى الدولية على المناطق والممرات والمضايق المائية الإستراتيجية في
المنطقة، وفي ظل التنامي المتزايد لخطر القاعدة، فإنه من غير المتوقع أن
تحظى طموحات بعض القيادات الجنوبية في الداخل والخارج المتصلة بفك الارتباط
بأي دعم إقليمي أو دولي كفيل بتحقيق ما تسعى إليه.
وإذا كان الحراك الجنوبي يحظى
حاليا بشكل ما من أشكال الدعم الخارجي، فربما كان مرد ذلك إلى:
1- شعور
الخارج بعدالة القضايا التي يطرحها الحراك.
2- تعاطف
الخارج مع ألأساليب السلمية التي يوظفها الجنوبيون في التعبير عن المظالم
والمطالب.
3- وصول الخارج إلى قناعة بأن
الترتيبات المؤسسية القائمة والسياسات التي تتبعها الحكومة اليمنية غير
قادرة على تحقيق الأمن والتنمية وبالتالي الاستقرار المنشود.
كما أنه من غير المتوقع -حتى في
ظل وجود دعم خارجي قوي لمطالب فك الارتباط- أن ينجح الحراك في تحقيق أهدافه
المعلنة سواء بالأساليب السلمية أو العنيفة. وجل ما يمكن لدعاة فك
الارتباط تحقيقه، هو الاستفادة من أخطاء الحكومة اليمنية في التعامل مع
الحراك ومن الأزمات المتعددة التي تواجهها، والعمل على إنهاكها وإضعافها
أكثر فأكثر.
وقد
يتمكن الحراك من الدفع بالدولة اليمنية الموحدة إلى الانهيار، لكنه لن
يتمكن من بناء دولة الجنوب السابقة على كل أو حتى على جزء من أراضي الجنوب.
والأقرب إلى الحدوث إذا ما مضى
الحراك بنفس الوتيرة أن تظهر قوى جنوبية جديدة ترث الدولة القائمة والحراك
على السواء، وتمثل القوى السلفية المتشددة والجماعات الجهادية وتنظيم
القاعدة في الجزيرة العربية، أبرز القوى التي يمكن أن تستفيد من استمرار
المواجهة على أرض الجنوب بين الدولة والحراك.
سيناريو
الإصلاح
تمثل الوحدة اليمنية لأسباب كثيرة
مفتاحا لتحقيق التنمية والاستقرار في جنوب الجزيرة العربية، لكن تجربة
العقدين الماضيين تبرهن على أن الوحدة التي تحقق الاستقرار لابد أن تقوم
على:
1- الشراكة الحقيقية في السلطة والثروة.
2- درجة
كبيرة من اللامركزية في ممارسة الدولة لوظائفها.
3- الدولة
القادرة خلال الأجلين القصير والمتوسط على تحقيق قدر معقول من التنمية
الشاملة والعادلة.
وإذا
كان قمع الحراك الجنوبي لن يحافظ على الوحدة، واستمرار الحراك لن يحقق
الانفصال، وبقاء الاثنين معا يطيح بالاستقرار ويهدد الدولة اليمنية
والأمنيْن الإقليمي والدولي، فإن سيناريو الإصلاح السياسي يبدو الأكثر حظا
في التحقق.
وسيتطلب حدوث هذا
السيناريو -وقبل فوات الأوان- القيام بإصلاحات واسعة تقود إلى تقوية الدولة
وتمكينها من بسط نفوذها على أراضيها، والتحكم في حدودها الدولية، ومكافحة
التهريب بكافة أشكاله، ومواجهة الجماعات المتطرفة، وتحقيق قدر معقول من
التنمية الشاملة والعادلة.
لكن الإصلاحات الواسعة المطلوب القيام بها ستتطلب دعما
شعبيا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال حوار وطني شامل، تشارك فيه كل القوى
بلا استثناء، وتتحدد من خلاله الخطوط العريضة لتلك الإصلاحات.
وترتبط إمكانية قيام الحوار، واحتمالات وصول المتحاورين
إلى اتفاقات، بوجود دور إقليمي ودولي نشط يقنع الأطراف اليمنية -وفي
مقدمتها الرئيس علي عبد الله صالح- بالأهمية البالغة للحوار، ويساعد
الأطراف اليمنية -ولا يفرض عليها- التوصل إلى اتفاق حول الإصلاحات
المطلوبة، ثم يقدم بعد ذلك مختلف أشكال الدعم المادي والفني الكفيلة بتنفيذ
الإصلاحات المطلوبة.