لأبي الطيب طعم خاص في عالم الحنين إلي أهله وشبابه وموطنه، حتى مع من طرده، وأقصاه ونفاه، يقول لسيف الدولة بعدما فارقه إلي مصر:
رمي واتقي رميي ومن دون ما اتقي هوى كاسر كفي وقوسي واسهمي
ومعني البيت أن سيف الدولة رماني ـ سامحه الله ـ بالجفاء والإبعاد وأنا لا أستطيع أن أرميه؛ لأن له في قلبي محبة دفينة، ووداً دافئاً، وميلاً كامناً، كلما أردت أن أرميه وأنتقم منه كسر هواه وحبه في قلبي كفي وقوسي وأسهمي، ولكن انظر إلي نصاعة البيت وحلاوته وانسيابه.
ويفارق أحبابه فيصرخ:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
يعني يوم ارتحلنا عنكم مكرهين أظلمت أمامنا الطرق، وسدت في وجهنا الأبواب ، ما عاد شيء يبهجنا، وما صار لدينا متعة تسلية ، ولا منظر يعجبنا. بل قال عن وفائه وحفظه للعهد:
خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
يا الله ! إلي هذا الحد وصل بك الوفاء يا شاعر العربية. إن الإيحاء الشعري فوق قضية البحر والوزن والقافية والروي، إنه سحر يجري في الأبيات ، وسحر يكمن في القصائد ، يفعل بالرواح فعل الغرام الهائج، أو الهيام المائج، وللمتنبي في باب الحنين مقامات مثيرة وشجون آسرة يقول:
نحن أدري وقد سألنا بنجد أطويل طريقنا أم يطول
وكثير من السؤال اشتياق وكثير مــن وردة تعليل
لله درك يا بن الحسين، يا صاحب البديهة الحية والقافية الذائعة، لقد سكبت علي قلوبنا فيوضات من الشجون الذي لا ينتهي، والحنين الذي لا يهدأ.
أما أولئك الشعراء الذين يملؤون بطونهم من طعام الخليفة، حتى إذا أتخم أحدهم قام ينظم قصيدة طويلة ثقيلة باردة سمجة، فلن تقرأ لهم جزاء وفاقاً علي بلادتهم وغباوتهم.
ويقول أبو الطيب وهو يحن لمدوحه، يعد بحسن تعاهده، وحفظ مودته:
أروح وقد ختمت علي فؤادي بحبك أن يحل به سواكاً
فانظر كيف أغلق قلبه وسد منافذه لئلا يصل إليه محبوب آخر، واسمع إلي دفء هذا الحنين:
ما لاح برق أو ترنم طائر إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
إن مرهف الإحساس النبي صلي الله عليه وسلم صافي الروح، تذكره المشاهد أحبابه، فيذكر ملاعب الصبا، ومراتع الشباب، ومعاهد الطفولة، ومنازل الصحاب، وخيام الجيران، أما المعاق نفسياً ، الميت عاطفياً، فله حديث مع الخبز، وقصة مع الفول، وقصيدة مع التمر الهندي:
من لم يبت والحب ملئ فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد
وقديماً قال أحدهم:
ولو كنت عذري المحبة لم تكن بطنيا وأنساك الهوى كثرة الأكل
وقال آخر:
ولما دعيت الحب قالت كذبتني ألست أري الأعضاء منك كواسيا
وقال آخر:
يبكي علينا ولا نبكي علي أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
أما المتنبئ فقد ذابت حشاشته مما به من الحنين يقول:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق
ويقول:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني