مركز استراتيجي: الاختلالات البنيوية للنظام اسهمت في ظهور الحراك
16/07/2009 الصحوة – يحيى اليناعي
شهدت الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية خلال عامي 2007 و2008م تطورات مفاجئة في حجمها ومطالبها وانعكاساتها حتى صارت تشكل تحدياً، و تهديداً في بعض التقييمات للدولة تفوق كثيراً التحدي الذي شكلته حركة «الحوثيين» في منطقة صعدة التي شهدت أربع جولات من الحروب، لكنها لم تثر من القلق والهواجس والمخاوف مثلما حدث مع حركة الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية، وفقاً لتوصيف التقرير الاستراتيجي الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية للعام 2008م. التقرير رصد الجذور النفسية لما أسماها بـ»ظاهرة الحراك الجنوبي» وتطوراتها و أسبابها وخصائصها ، وخلص إلى نتائج استشرف من خلالها مستقبل هذه الظاهرة، نورد مخلصاً لها فيما يلي.
الجذور النفسية للحراك
يشير التقرير إلى أن الحراك لا يقف وراءه تجمعات سياسية تاريخية معروفة، وأن الذين يتحدثون عن الانفصال لا يصنعون ذلك وفقاً لبرنامج سياسي متكامل ورؤية إستراتيجية متسقة، ويقول أنه مما « ينبغي الانتباه له، للأمانة التاريخية، أن أصوات الغضب هذه، أو حتى المطالبة بمشروعية الدعوة إلى الانفصال، لا تصدر حتى الآن من تجمعات سياسية تاريخية كالأحزاب المعروفة أو باسم تجمعات قبلية أو مناطقية جماعية، فما يزال (الانفصال) يمثل قيمة سلبية عند غالبية اليمنيين.. ولا يستثني من ذلك الجنوبيون أنفسهم.
ويضيف بأن « الذين يتحدثون عن (الانفصال) واستعادة الكيان السياسي المستقل للجنوب لا يصنعون ذلك وفقاً لبرنامج سياسي متكامل ورؤية إستراتيجية متسقة؛ فكل هؤلاء هم من الذين كانوا جزءاً من الدولة اليمنية الواحدة ولم تعرف عنهم معارضة للوحدة قبل 1994م (من أبرز قادة الحراك الجنوبي وأشدهم حساسية لكل ما هو شمالي القيادي الاشتراكي (حسن باعوم) الذي عاش نازحاً في الشمال بعد أحداث 1986 في عدن حيث كان من أنصار الرئيس السابق علي ناصر محمد الذي عاش في الشمال هو وأنصاره في رعاية الحكومة في صنعاء حتى عام 1990، والآخرون كانوا من قيادات دولة الوحدة أو خدموا في أجهزتها الأمنية والعسكرية حتى عام 1994 مثل «العميد ناصر النوبة» وعدد من القيادات السياسية البارزة في الحزب الاشتراكي اليمني الذي ظل يشارك مشاركة كاملة في حكم اليمن الموحد حتى 1994).
وفي رصده للجذور النفسية للحراك ألمح التقرير إلى أثر الاستخدام السياسي لسلاح النعرات الجهوية والقبلية والمذهبية في الصراع على السلطة الذي حدث بعد قيام دولة الوحدة اليمنية، حيث جرى حينذاك نبش العديد من قضايا الماضي مثل المظالم السياسية والقبلية والمناطقية التي تورط فيها النظامان السابقان ضد خصومهما في إطار كل شطر، وفي السياق نفسه جرى إثارة معادلة الجنوب بثروته النفطية ومساحاته الشاسعة وسكانه القليلين، مقابل الشمال المكتظ بالسكان قليل الثروات صغير المساحة، ومعها ثار الحديث عن التمايز بين الجنوب والشمال، وعن الهوية الجنوبية المختلفة عن الهوية الشمالية، والتي كان لها أثر رجعي على دعوات الانفصال اليوم. واستدرك التقرير مشيراً إلى أنه «مع أن هذا التوجه للاستناد إلى الهوية الجنوبية لم يكن صريحاً في الأدبيات الرسمية إلا أن الشارع الجنوبي كان يزخر بالتعبئة النفسية على خلفية المعاناة اليومية التي واجهها اليمنيون، كلهم دون استثناء، بسبب تداعيات حرب الخليج الثانية وأبرزها قطع المساعدات الخليجية والأمريكية وعودة مليون مغترب يمني بعد فقدانهم أعمالهم وامتيازاتهم في دول الخليج، والتدهور السريع لمستويات المعيشة المتواضعة أصلاً.. كل ذلك كان أشبه بلطمة قاسية تلقاها اليمنيون بعد قرابة شهرين فقط من الأحلام الوردية التي عاشوها وظنوا معها أن الوحدة ستأتي لهم بالرخاء والسعادة، فقد ربطت عملية التعبئة كل أمر سيء حدث في الجنوب بالبعبع الشمالي المتخلف، ومركزية الحكم في صنعاء، رغم أن نصف الحكام والمسئولين التنفيذيين في العاصمة كانوا جنوبيين بينما استمرت سيطرة الجهاز الإداري الجنوبي على المناطق الجنوبية الذي ظل محكماً قبضته على رغم وجود مسئولين شماليين ثم تعيينهم في إطار عملية الاندماج الوظيفي والإداري المتبادل». *الدلالات والدوافع المباشرة يوضح التقرير أنه « من المهم عند تناول مثل هذه الظواهر السياسية ذات الخلفيات الاجتماعية والجهوية – مثل الاحتجاجات– العودة إلى الخلف سنوات لمحاولة تلمس الأسباب الحقيقية لمظاهر الغضب والاحتجاجات، وتقدير مدى جذريتها وآفاق مستقبلها في بلد ظلت فيه (الوحدة) أبرز شعارات الحكم والمعارضة، وهدف الفرقاء السياسيين المختلفين، وتعنى بها الشعراء والفنانون في كل حين، وخاض اليمنيون باسمها حروباً وصراعات دموية ما تزال آثارها ظاهرة للعيان حتى الآن! وأورد عدداً من الأسباب ، من أهمها أن « (129) عاماً من التجزئة السياسية في اليمن أسهمت في صنع كيانين سياسيين: يمن جنوبي ويمن شمالي، وزادت الصراعات السياسية والعسكرية قبل الوحدة في تكريس هذا الاختلاف بين الدولتين والنخبتين الحاكمتين بصرف النظر عن حقيقة أن المواطنين لم يكونوا معنيين كثيراً بهذا التقسيم السياسي. لكن من المهم الإقرار بأن سنوات التجزئة خلقت جيوب انتماء هنا أو هناك، ومايزت بين نفسيات المنتمين لهذه الدولة أو تلك. وعندما بدأت التركيبة الثنائية الحاكمة بعد الوحدة تفقد انسجامها الظاهري الذي بدت عليه في العام الأول؛ لجأ البعض للحديث عن هوية متميزة للجنوب: سياسياً واجتماعياً وسلوكياً لتبرير الحرص على ضرورة إبقاء التقاسم في قيادة الدولة وربما للتلويح بخيار الانفصال كحق تاريخي لهوية متميزة في مواجهة الأكثرية العددية الشمالية! والسبب الثاني أن « الطريقة التي تم بها توحيد شطري اليمن عام 1990م شكلت أحد أبرز أسباب الضعف الذي يتسم به النظام السياسي في اليمن؛ فلأسباب عديدة لم يكن من الممكن أن تتم عملية التوحيد على غرار ما حدث بعد ذلك في (ألمانيا).. فلم يكن النظامان اليمنيان قادرين على إتمام الوحدة بطريقة ديمقراطية يتسلم فيها الحكم الحزب الفائز بالأغلبية في الانتخابات.. فاليمن ليست ألمانيا، والقادة اليمنيون لم يكونوا بذلك المستوى من الإيمان والقناعة بالخضوع لنظام ديمقراطي تعددي سليم، فقد كان النظامان الشطريان موغلين في الممارسة الاحتكارية للسلطة والاعتماد على القوة المسلحة لضمان البقاء فيها. ولذلك كانت عملية توحيد اليمن بالصورة التي تمت هي الممكن الواقعي الوحيد يومها وقبل بها الذين ليسوا في السلطة لعدم تفويت الفرصة التاريخية التي لاحت لتوحيد البلاد وعلى أمل أن يتم إصلاح الاختلالات فيما بعد. وقد نشأ عن هذه الاختلالات في النظام السياسي أن الحكومة التي انفردت بالسلطة بعد الحرب فشلت في أن تكون عند مستوى التحدي الوطني الذي جعلها مسؤولة عن اليمن كله للمرة الأولى منذ مئات السنين، ومواجهة المشاكل المستعصية التي ورثتها دولة الوحدة عن مرحلة التجزئة. والثالث «أن الاختلالات البنيوية، التي يتسم النظام السياسي في اليمن قد منعت حدوث تطورات سياسية صحية باتجاه السماح للقوى السياسية بالنمو والتطور والقبول بها كلاعب أساسي في اللعبة الديمقراطية؛ ثم ازدياد حالة الإحباط في الشارع اليمني مع ازدياد المعاناة المعيشية بسبب استمرار ارتفاع الأسعار وتدهور القيمة الفعلية للأجور والمرتبات، وتخلي (الدولة) عن العديد من وظائفها الاجتماعية التي كانت الأغلبية من الفقراء ومتوسطي الحال يستفيدون منها، وتحول الباقي منها كالتعليم والصحة إلى مجرد خدمات إما خالية المضمون أو تقدم برسوم تثقل كاهل المواطنين! وخاصة بعد أن تبنت دولة الوحدة نهج الاقتصاد الحر لكن عملية تطبيق ذلك ما تزال غير مكتملة رغم أن الحكومات المتعاقبة نفذت برامج جذرية مثل إلغاء الدعم نهائياً عن المواد الغذائية الأساسية ، وإلغاء الدعم جزئياً عن المشتقات النفطية ، وتخلت عن مبدأ توظيف المواطنين إلا وفق الحاجة. وقد كانت هذه الحالة المعيشية الصعبة هي الوقود الذي أدار حركة الاحتجاجات في المقام الأول، وحرص قادة الحراك الجنوبي على ربط تدهور الأوضاع بالأسلوب الذي تدار به الدولة الذي تغلبت فيه الطريقة والعقلية (الشمالية) واستبعدت الطريقة الجنوبية أو كما يقال فرض نظام الجمهورية العربية اليمنية وإلغاء نظام اليمن الديمقراطية بدلاً من الأخذ بإيجابيات النظامين السابقين!
مستقبل الحراك
لا يرتبط استشراف مستقبل حركة الاحتجاجات الجنوبية على عوامل خاصة بها فحسب فهناك عوامل أخرى تتعلق بالأطراف الأخرى في السلطة والمعارضة، والقوى الإقليمية والدولية ذات الاهتمام بالشأن اليمني. وفي كل الأحوال قد لا تخرج التوقعات عما يلي:
1- أن تواصل الحركة فقدان زخمها بسبب قصورها الذاتي، وتعود قيادة الشارع في المحافظات الجنوبية كلياً إلى المعارضة ووفق برنامجها الذي يجعل من الإصلاح الشامل للنظام السياسي المدخل العملي لإصلاح كل الاختلالات، لكن هذا الأمر مرتبط بقدرة (اللقاء المشترك) على المحافظة على وحدة قراره وتجاوز المصائد السياسية التي تعترض طريقه.
2- أن تستعيد الحركة قوتها في الشارع الجنوبي وتنجح في إبراز قيادات جديدة يتمكنون من إعادة الالتفاف الشعبي حولهم ولاسيما إذا فشلت الحكومة في حل المشاكل حلاً جذرياً واستمرت معاناة المواطنين من الأوضاع المعيشية والإدارة السيئة.. لكن هذا السيناريو يبدو بعيد الاحتمال لأسباب عائدة إلى الخصائص السلبية التي اتصفت بها الحركة والمشار إليها في ثنايا الكلام.
3- أن تنجح الحكومة في تفكيك المجموعة القائدة للاحتجاجات وحل معظم مشاكل المتقاعدين والمسرحين بطريقة صحيحة فتغلق بذلك أبواب الشكوى ومصادر المعاناة لهذه الشريحة من المواطنين الغاضبين. ويبدو هذا السيناريو صعباً بالنظر إلى خصائص النظام السياسي القائم.
4- أن تطور الحركة أساليبها وتعدل من أهدافها وخطابها السياسي والإعلامي بما يتفق مع الإطار العام لبرنامج المعارضة، ويشكل الطرفان –مع بقاء تمايزها- قوة ضغط شعبية وسياسية للدفع بإجراء إصلاحات شاملة وحقيقية في مختلف المجالات.
سمات وخصائص الحراك
اتسمت حركة الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية بخصائص عكست نفسها على مسار الحركة والنتائج التي حققتها ومستقبلها وعلاقة المجتمع اليمني بها:
&&&&&< أولاً: لم تكن حركة الاحتجاجات قائمة على تنظيم دقيق وهيكلية متينة تسمح لها بتطوير فعالياتها تصاعدياً.. فقد تعرضت الحركة لانتكاسة نسبية وانخفضت وتأثر نشاطاتها بشكل ملحوظ نتيجة المواجهة العنيفة لها من قبل الأجهزة الأمنية، ونتيجة اعتقال أبرز قياداتها أكثر من مرة، وقيام الحكومة بتلبية الكثير من المطالب الحقوقية. ومن الواضح أن عدم استناد الحركة الاحتجاجية إلى هيكلية وتنظيم متماسك حرمها من القدرة على استيعاب الصدمات المضادة التي تعرضت لها، كما أدت إلى افتقادها الوحدة القيادية والقاعدية منطلقاً وأهدافاً!
&&&&&< ثانياً: انحصرت الحركة في مناطق ومدن محدودة وبالذات في عدن والضالع والمكلا بدرجة أساسية، وقد حرمها ذلك من الظهور بمظهر المعبر عن الإجماع الشعبي في جنوب اليمن كما حرصت قيادتها على التصريح به وتقديم نفسها (قيادة جنوبية) بديلة للمعارضة وخاصة الحزب الاشتراكي اليمني الذي تعرض للانتقاد الشديد وتحميله مسؤولية ما حدث. وقد قلل من الطابع الشامل للحركة حقيقة أن معظم العسكريين المتضررين أو المشاركين في الاحتجاجات ينتمون إلى محافظة واحدة في الأساس هي محافظة الضالع التي كانت تمثل المخزون الأكبر للجيش والأمن في دولة الحزب الاشتراكي اليمني مقارنة بالمحافظات الأخرى التي كان وجودها شبه معدوم أو قليلاً أو غير مؤثر. وهو وضع مختل كان نتيجة هيمنة مناطقية – بالتحالف مع آخرين – على الدولة والحزب في الجنوب قبل الوحدة، وأثار – وما يزال – حساسية سياسية واجتماعية.
&&&&&< ثالثاً: تورطت حركة الاحتجاجات في بداية مسيرتها بإعلان بعض قياداتها لمطالب سياسية لا تحظى بإجماع المنتمين إليها من قبيل رفض شرعية الوحدة ومقارنتها باحتلال العراق والكويت والمطالبة بإعطاء الجنوب حق تقرير المصير والترويج لصوابية الانفصال! كما أنها تقاطعت بذلك مع المعارضة التي كان يمكن أن يشكل التحامهما معاً ضد السلطة قوة سياسية وشعبية مؤثرة قادرة على تحقيق مكاسب أكبر وأكثر جذرية مما حدث!
&&&&&< رابعاً: افتقدت الحركة إلى امتلاك إستراتيجية واضحة الأهداف ومتفق عليها، كما أن قياداتها الأساسيين غلبت عليهم العصبية والتهور في الأداء وعدم القدرة على إدارة مواجهتهم للحكومة بطريقة ذكية تأخذ في الاعتبار الحقائق التاريخية وتشخيص الأسباب الحقيقية للمعاناة الشعبية.. ومقابل ذلك استسهلت تلك القيادات الحديث عن الانفصال وحق تقرير المصير دون تقدير للعواقب السلبية على التأييد الشعبي معهم، وتجاهلاً لحقائق موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية التي ستجد في تفكيك دولة بالأهمية الإستراتيجية والجغرافية كاليمن خطراً على المصالح الدولية وعلى الأمن الإقليمي والعالمي