حين تعود بي الذاكرة إلى اللحظات التي شهدت توافد الآلاف من أبناء الجنوب إلى "ساحة الحرية" بمدينة خور مكسر بمحافظة عدن، صبيحة يوم السبت الموافق 7/7/2007، تلبية لنداء المجلس الأعلى لجمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين والمدنيين، وهي اللحظة التي مثلت كسر حاجز الخوف والانطلاقة الحقيقية للحراك السلمي الجنوبي، فإنني أشعر بالزهو والافتخار. لكن حين أسمح لنفسي الأمارة بالسوء بمقارنة تلك اللحظات بما وصل إليه الحراك السلمي اليوم، فإنه ينتابني شيء من الأسى من ذلك النوع غير القادر على هز معنوياتي وثقتي في عدالة القضية التي آمنا بها ووضعنا أنفسنا وإمكاناتنا وقدراتنا في سبيل نصرتها بما تحمله من مضامين سامية وأهداف نبيلة.
الأسى لم ينتابني بمعزل عن كثير من الحريصين على وحدة الصف الجنوبي الذين ابتعدوا عن واجهة المشهد في ظل ازدحامه بـ"عشاق المنصات وسراق الثورات" حد وصف الكاتب فاروق ناصر علي، ابتعدوا دون أن يسأل أحد لماذا؟ وهو السؤال التائه في زحمة الاتهامات التي طالت هؤلاء واستهدفتهم سهام التخوين ووضعوهم تحت "السقف الواطي". وذلك الابتعاد جاء كنتاج طبيعي للتشوهات التي أساءت للصورة الجميلة بفعل تصرفات وسلوكيات غير مسؤولة ممن بات يطلق عليهم "قادة الحراك" الذين فضل بعضهم الانتصار للذات المريضة بحب "الزعامة" المفرغة من مضامينها ونبل مقاصدها، غير مكترث بآلام الجرحى ومعاناة أسر الشهداء والمعتقلين، وعلى يقين تام أنه لو وجه السؤال لكل جريح ومعتقل وأسرة شهيد عن مدى اهتمام هؤلاء بهم أو مجرد السؤال عن أوضاعهم لكانت الإجابة فاضحة وعلى رؤوس الأشهاد.
التشكيك في الآخر والتصنيف وفق الأمزجة وثقافة الإقصاء وعدم القبول بالآخر المختلف في التفكير والرؤى وليس في الهدف الذي بات محل إجماع كل القوى على علاتها، باتت أموراً تتحكم في علاقات الحراكيين يلحظها حتى المصابون بالعمى، وهي من العوامل الأساسية التي أخرت كثيراً عملية توحيد المكونات وإيجاد قيادة موحدة، وأبطأت من مسيرة الحراك في الآونة الأخيرة. كما أن "أزمة الثقة" قد تمكنت من القيادات التي كانت تقف جنباً إلى جنب في ساحتي الحرية والهاشمي والمعتقلات والمحاكمات، وبات كل طرف يتصيد أخطاء الآخر للإيقاع به والمزايدة عليه واتهامه بما ليس فيه، مستغلاً حماسة الشارع ورغبته في الانعتاق من نير الظلم والاضطهاد.
المرحلة التي يمر بها الحراك هذه الأيام وانقسامات النفوس تمثل التحدي الأكبر منذ انطلاقته الأولى، وهي بحد ذاتها أخطر من تهديدات السلطة ومؤامراتها ودسائسها وعسسها المنتشرين في أوساط الحراك. والمؤسف أنه حين يتطرق أحدنا لنقد مثل هذه الأوضاع والتحذير من عواقبها يتم تصنيفه على هوى بعض تلك القيادات التي جعلت من إخلاصك لها مقياساً لإخلاصك للقضية وأهدافها، وقد ذهب بها مزاجها المتقلب والمفتقر لمعايير الاتزان والتوازن إلى أن تضع من يختلف معها ويرفض طريقتها في الأداء والتفكير في مربعات الخيانة ودوائر التآمر والارتهان للسلطة وأجهزتها الاستخباراتية. أعلم جيداً أن التصنيفات ستطالني وستصب في خانة ارتباطي بالأمن القومي، أو لعلي قد قبضت الثمن مسبقاً، غير مدركين أصحابها أنني لا أعير ذلك أدنى اهتمام ولا ألتفت إليه.
إذا لم ننتقد ونقوّم الاعوجاج الظاهر للعيان في جسد الحراك الجنوبي ومفاصله، وهو نتاج "نزوات" تلك القيادات التي قسمت الحراك إلى قبائل وأحزاب وطوائف بهدف الحفاظ على بقائها في المشهد الجنوبي، وإن تم هذا الأخير على حساب وحدة الجميع، فإننا سنستيقظ ذات يوم على مشهد سيؤلم الجميع ولن يستثني أحداً.
في الجنوب يتواجد أكثر من لاعب غير الحراك، وبدلاً من أن ينزل الحراك للملعب بفريق واحد وقائد واحد وخطة واحدة نجده يتوزع على مكونات لا هدف لها إلا إعاقة الآخر وتجيير الانتصارات لها وإن كانت غير فاعلة. فأحدهم يصف معتقلي مكوّنه بأنهم الأشجع والأقوى داخل المعتقلات، متناسياً في لحظة غرور وغباء مركب أن السلطة لا تفرق بين أحد حين تقتل أو تعتقل أو تجرح، أو تسأل عن مكوّنه وقائده!
انقسامات الداخل لها علاقة مباشرة بالاختلافات بين قيادات الخارج، ومرد ذلك إلى تمترس قيادات الداخل خلف قناعات وتوجيهات أصحاب الخارج، والشواهد كثيرة لعل أبرزها ما يحدث حالياً من عرقلة لتوجهات شباب وطلاب الجنوب لإيجاد كيان جامع لجهودهم، وما ينفقه البعض من أموال لإفشال هذه المهمة، شوهد صرفها جهاراً نهاراً في لبعوس أثناء اجتماع الشباب من قبل من يراد لها أن تكون وصية على نساء الجنوب. والتساؤل هنا أين هؤلاء وأموالهم وحرصهم من معاناة الجرحى في المستشفيات؟
واقع الحراك الجنوبي بات مؤلماً، وحين أتحدث عن الحراك فإنني لا أعني قضية الجنوب العادلة التي ما زالت تبحث عن حامل سياسي لها يقدر مضامينها وتضحيات أبناء الجنوب.
الحراك الجنوبي يعيش عامه الرابع دون أدنى وقفة تقييمية له، وإن كان قد حقق نجاحات ميدانية ملحوظة، إلا أنه فشل في إيجاد نصر سياسي عبر بوابة البرنامج السياسي والقيادة الموحدة، وسنجد كل طرف يلقي باللائمة على الطرف الآخر، واستمرار بوابة الاتهامات والتشكيك مفتوحة على مصراعيها حتى يستيقظ الحراكيون من سباتهم ويقولوا للأعور أنت أعور ولا داعي لمزيد من الهروب من مواجهة الحقيقة بداعي الحفاظ على وحدة الصف الذي بات يتصدع يوماً عن آخر، أو من منطلق عدم نشر الخلافات التي باتت منشورة علناً على حبال الغسيل المسماة "مواقع الكترونية".
ربما يقول أحدهم إنني قد ركبت موجة المزايدة، وإنه لا يوجد في الحراك شيء مما قلته، وإن ما يحدث ما هو إلا اختلاف في وجهات النظر وتباينات في الآراء، لكن ما يفند مزاعم هذا الطرح أنني موجود في الحراك ومعايش واقعه، ولم آتِ من كوكب آخر، ومع ذلك أرد بتساؤل: لماذا تفرقنا بعد أن كنا موحدين..؟ ولماذا ابتعدنا بينما كنا قريبين جداً من بعض؟!
كم نحن بحاجة ماسة للحظة صدق مع الذات ومع القضية كتلك التي تجلت في ساحة الحرية في 7 يوليو 2007. فهل يملك الحراكيون القدرة على إزالة التشوهات، وأن يعيدوا للصورة بريقها ورونقها؟!