شفيع العبد
لم يجد البوعزيزي بداً من إحراق نفسه بعد أن فاضت أكوابه المترعة ظلماً واستبداداً، احتجاجاً على مصادرة وسيلته لتامين لقمة عيشه، استكثروا
عليه –عربه- فجعل من جسده جذوة مشتعلة في نفقاً مظلم منذ 23 عاماً خلت، فأنتفض على إثرها المتطلعين لأفق الحرية ليحموها بحدقات عيونهم
وأرواحهم من رياح الانطفاء، رافضين الانكفاء فساروا بها ملئ تونس، فاتحين أنوفهم على اتساعها ليشتمّوا عبق الحرية لأول مرة، فأتت أوكلها بأن
ألقت بالدكتاتور من الباب الخلفي ليلاً، ليجوب الفضاء مذعوراً كخفاش باحث عن موطئ هرباً من أضواء قوافل الحرية والانتصار للكرامة الإنسانية.
الجميع شاهد كيف انتصر الجيش لثورة الياسمين وأدار ظهره للاستبداد، مفضلاً الوقوف إلى جانب الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في الوطن
وخيراته. في ردفان كغيرها من مدن ومناطق الجنوب المستباحة ينتفض الشعب هناك منذ أربع سنوات مضت لاستعادة الوطن المصادر، ويقف لهم
الجلاد بالمرصاد بمساندة الجيش وأجهزته الأمنية والاستخباراتية الخاصة والعامة ويسقط الشهداء والشهيدات تباعاً، وتتضاعف أرقام الجرحى
والمعتقلين، وترتفع أسهم الأيتام والأرامل والثكالى وتقصف القرى وتدك المنازل على رؤوس ساكنيها، وتنعدم الخدمات العامة، لترتفع عالياً أنخاب قادة الحملات العسكرية الميدانية
على أنات الأطفال وصرخات النساء و أوجاع الغلابى مع كل مدفع يُقذف، وصاروخاً يُطلق، فيُسمع صدى اصطدامها ببعضها في زوايا الحكم، لتتم مبادلتها بذات الأنخاب في
لحظة زهواً زائف وتوهماً بانتصار على الطريقة الدونكيشوتيه، و بسادية لا مثيل لها، دون أن يحرك ذلك ساكناً لدى الشعب الساكن، و قادة المعارضة الساكنون بالقرب من
النهدين، والمنظمات الحقوقية او ما يعرف بمنظمات (الحوت) المستثمرة في مجال الحقوق والحريات العامة، ربما بين هؤلاء من بات يردد بنبرة عدائية: "يستأهلون هؤلاء
انفصاليون"!!، او بأخرى انهزامية:" لو صبروا على الظلم كان اخرج لهم"!!
يدّعي الحاكم حرصه على التصالح والتسامح وينسبه لنفسه، ولا يتورّع في التذكير بصراعات الماضي الجنوبي واستحضارها في كل مناسبة متناسياً صراعات فترة حكمه ،رفات
الناصريين غير المنسي، و لن يكون أخرها حروبه في صعدة وحربه المستمرة في الجنوب منذ صيف 94م.
نراه يُقيم ويرعى ندوات التصالح والتسامح وينال الدروع، وأخرها من الجامعة البائسة حد الشفقة – جامعة عدن- التي تخلّت عن مهمتها الأكاديمية بفضل رئيسها الذي أحالها إلى
إدارة تابعة لأجهزة التخويف السياسي والقومي، وجعلها منبراً لمواجهة القيادة التاريخية للجنوب وحراكه السلمي، ومتخصصة في نبش الماضي وفتح ملفاته بهدف نفث الأحقاد وبث
السموم بخطابات تجعل ضحكاتي ترتفع عالياً حد القهقهة، تتحدث عن مآسي الجنوب وتذكر بها وكأن الجنوب الحبيب هو وحده من شهد مآسي وصراعات دموية؟، كم هو حرياً
برئيسها أن يتصالح ويتسامح مع نفسه اولاً وطلابه و نوابه وعمداء كلياته والهيئة التدريسية بالجامعة الذين ازدادت معاناتهم خلال فترته، بدلاً من تأدية دور أظهره كممثل فاشل
على مسرح بائس، جعل جميع المتابعين يشفقون عليه من الحالة التي وصل إليها، وأجدني هنا مضطراً لتذكيره بأن المسرح بدأ يتآكل في طريقه للسقوط بهم وبمخرجهم، وقد
تشكلت عوامل السقوط من داخله، بفعل سياساتهم الإقصائية الرافضة للآخر المختلف، المتكئة على التذكير بالماضي بهدف نكئ الجراح، في وقت دارت عجلة التصالح والتسامح
الجنوبي غير مهتمة بترهات كتلك، تعبر عن حقيقة الوعي المأزوم لدى أصحابها.
ردفان كانت صاحبة دعوة التصالح والتسامح من خلال جمعيتها في عدن، التي دفعت ثمن خطوتها تلك إغلاقها ومصادرة ترخيصها حتى اللحظة من قبل سلطة تجيد فعل الادعاء
لا سواه، لم يسبقها إليه احد من الهيئات والمؤسسات التي تجتهد بعضها لإدعاء السبق، حيث عمل أبناء الجنوب على تجسيده واقعاً معاشاً بحراكهم السلمي منقطع النظير، لكنها
تُعاقب اليوم بشتى أنواع أسلحة الحاكم الذي يرفض بعناد مستغرب الاتعاظ والاعتبار من الأحداث الأخيرة في تونس، والخطوات التي اتخذها بعض نظرائه العرب في محاولات
بائسة منهم لجبر خواطر شعوبهم بعد أن تحسسوا ملياً رؤوسهم وعروشهم وكروشهم المنتفخة من قوت المطحونين من شعوبهم، في لحظة ذهول بينما كانوا يتابعون غير مصدقين
ثورة الشارع التونسي الصانع للتغيير، فيأبى إلا إشعال الحرائق في ردفان الثورة، الجبال الشماء التي انطلقت من على قممها الشرارة الأولى للثورة الحقيقية الخالدة "14اكتوبر"،
ردفان التصالح والتسامح؟
ردفان أيتها الصامدة في وجوه جنرالات الحروب، عشاق لون الدماء،المعادون للتصالح والتسامح، الطامعون في إذلالك، المتطلعون لكسر إرادة ابنائك، يا من تمنحينا الإلهام
لرفض الظلم والاستبداد، وتمديننا بالعزيمة في مواجهة الانكسار، وتوقدي فينا جذوة الحرية، وتزرعي فينا الأمل باقتراب فجر الحرية واستعادة الوطن المصادر المنهوب، سيبقى
أبناءك واقفون كجبالك، شامخون كقممك في مواجهة الباطل، حتى وان خذلهم الجميع، تلك هي ثقتنا بهم، المستمدة من ثقتنا في تاريخك ونضالاتهم الطويلة، وستبقى اكفنا مرفوعة
للسماء، وألسنتنا تلهج بالدعاء بان يحميك الرب في مواجهة من يضمرون لك الشر، وللحرية العداء، وكفى