من عادة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في حل الخلاقات مع خصومه الرهان على طول الوقت, وشراء الذمم, وزرع الخلافات بين خصومه, ثم الفتك بمن يظل على مبدأه, والعمل بكل السبل أن لا تكون العاصمة صنعاء مركز حكمه هي مركز الصراع, والإمساك بزمام قرار استخدام القوات المسلحة والأمن .
في الأزمة الحالية التي يمر بها الرئيس صالح تعد غالبية الشعب اليمني في الجنوب والشمال هي الخصم الأول له, وفي مقدمتها الشباب.. ويبدو أنه فشل في استثمار معظم أساليبه السابقة وحماية مركز حكمه صنعاء, فقد أصبحت هي مركز الصراع, وحدثت الانشقاقات الكبيرة في صفوف القوات المسلحة والأمن. ولهذا ظهر في لحظات معينة أنه كاد يفقد السيطرة على الأوضاع, لكن هذا الشخص ظل يراهن على مرور الوقت, وبالفعل استطاع يصمد وقتا لم يصمده غيره من الرؤساء العرب, مستثمرا بشكل جيد الأموال العامة لحشد الجماهير من المحافظات إلى ميدان السبعين مما جعل دول الخليج تعيد صياغة مبادرتها لأكثر من مرة, فلماذا قبل الرئيس صالح بالمبادرة الخليجية الأخيرة؟ سوف نرد على هذا السؤال في المحاور التالية:
1. أتت المبادرة الخليجية الأخيرة حبل نجاه له من الغرق. ولكنها قد تكون حبل نجاه إلى حين.
2. اعتقادا منه أنها أفضل المتاح, وأعطت له كثير من المكاسب التي كان لا يحلم بها, فقد قضت على أهم مطلب للثورة السلمية, وهو التنحي من السلطة قسرا إلى التخلي عن صلاحياته لنائب رئيس يختاره وليس لنائبه الحالي, وتقديم استقالته إلى مجلس النواب, وتقديم استقالة إلى مجلس يضمن فيه الغالبية قد تكون حكاية. ورفع الاعتصامات من الساحات, وعدم الملاحقة القانونية ليس له وأفراد عائلته, وإنما لأفراد السلطات الحاكمة دون تحديد لفترة زمنية بعينها. ونصف حكومة الوحدة الوطنية للفترة الانتقالية, أي حق التعطيل للحكومة.
3. أعتقد أن المعارضة سوف ترفضها, وبالتالي سوف يكسب تعاطف دول الخليج.
4. يعتقد أن قبول اللقاء المشترك للمبادرة سوف تحدث شرخ بينه وبين الشباب والجماهير في ساحات التغيير. وبالتالي تمزيق قوى الثورة. وعمل على تركيز خطابه الإعلامي وكأن الصراع بينه وبين تكتل أحزاب اللقاء المشترك وليس مع الشعب.
5. المبادرة ضمنت له الاحتفاظ بكثير من عوامل القوة في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية, وأبقت على هيكلية وقوام المؤتمر الشعبي العام.
6. المبادرة الخليجية فرضت كثير من القيود على قوى الثورة الشبابية والشعبية, بما يفقد الثورة محتواها الحقيقي وهو حق التغيير الوطني الشامل.
7. الأهم أن الرئيس صالح سوف يستغل وقت الحوارات على المبادرة لترتيب أوراقه, ومنها توزيع الهبات المالية والأسلحة على الشيوخ والقبائل, فكل يوم تقف القبائل طوابير أمام دار الرئاسة في مديرية السبعين, وكذا أمام بوابة معسكر الحرس الجمهوري الذي يقوده نجله احمد, وكلها طوابير لاستلام المال والأسلحة, ويقوم بإعادة ترتيب وتسليح بعض الوحدات العسكرية والأمنية, وهذه مؤشرات لا تقبل الجدل أن الرجل غير مستعد للرحيل السلمي عن الحكم ويستعد للمواجهة العسكرية.
8. تصرفات وممارسات الرئيس صالح تدل انه حتى وأن خرج من السلطة يرتب للعودة لها, فهو سوف يترك خزينة الدولة فارغة, وسوف تكون أول عوامل الفشل للسلطة الجديدة. وأحد المبررات لعودته إلى الحكم.
في المقابل آتيان مبادرة دول الخليج العربي في نسختها الثالثة بتلك الصورة الفضفاضة ليس في صالح شباب ثورة التغيير والمعارضة اليمنية, فلماذا قبلت المعارضة اليمنية بالمبادرة الخليجية الأخيرة؟ سوف نرد على هذا السؤال في المحاور التالية:
1. رفض المبادرة بشكل مطلق من قبل المعارضة سوف تجعل الرئيس صالح هو الرابح وهي الخاسرة لتعاطف دول الخليج, وقبولها بشكل مطلق سوف تجعل المعارضة تخسر حلفائها شباب ثورة التغيير, ولهذا أمسكت العصا من الوسط, فقد قبلت بالمبادرة والتحفظ على بعض بنودها, وهو رفض مبطن.
2. استمرار الوضع الحالي لصالح الرئيس صالح, فالبقاء في الساحات والتظاهر في الشوارع ليس الهدف المنشود, ومن الصعب الاستمرار في هذه الوضعية, فقد تؤدي إلى نهاية مؤلمة.
3. حتى الدعوة إلى عصيان مدني هي دعوة غير مدروسة, لأن شباب الثورة ما يعتبرونه عصيان مدني من إقفال للمتاجر وتوقف حركة سير السيارات,هو ليس عصيان مدني. بل هو بمثابة إضراب شامل, ومع ذلك نجح شبه كلي في مدينة عدن وجزئيا في مدينتي تعز والحديدة, ولم ينجح في أهم مدينة وهي العاصمة صنعاء. أما العصيان المدني فهو يشمل إلى ما يجري في الإضراب الشامل تطويق أو السيطرة على أهم المنشآت التابعة للدولة, التي تفقد أجهزة السلطات الحاكمة السيطرة على الأوضاع, ولا يتم الانسحاب منها إلا بتحقيق المطالب المنشودة.
4. الوضع المتراوح بين طرفي الأزمة في الساحة اليمنية الشمالية على وجه التحديد, وتحوله من القضية الرئيسية ـ رحيل الرئيس ـ إلى الخلاف حول القبول بالمبادرة الخليجية أو رفضها. استمرار هذا الوضع قد يكون الرئيس صالح هو الرابح والثوار الشباب والمعارضة هما الخاسران, لهذا إذا كانت كل المؤشرات تؤكد أن الرئيس صالح يراهن على الوقت لترتيب أوضاعه, فبالمقابل فأن المؤشرات تؤكد أن شباب ثورة التغيير والمعارضة اليمنية. بل وحتى الحراك السلمي الجنوبي بدءوا جميعا يدركوا أن طول الوقت لا يخدمهم, ولهذا أتوقع أن الأيام القادمة قد تكون حاسمة, ومن مؤشراتها ما يلي:
أ. الحراك السلمي الجنوبي الذي ظلت قياداته طوال الشهرين الماضيين تلتزم الصمت ووجهت أنصارها بمجارات شباب ثورة التغيير والمعارضة في شمال اليمن في رفع شعار( الشعب يريد إسقاط النظام) قد أعلنت عن إقامة فعالية جنوبية في يوم 27 من الشهر الحالي الذي يصادف يوم الأربعاء القادم في عاصمة الجنوب عدن بمناسبة الذكرى الـ 17 لإعلان الرئيس اليمني صالح الحرب على الجنوب في 27 ابريل عام 1994م. وتأتي هذه الدعوة كتعبير عن رفض تجاهل الأشقاء الخليجيين للقضية الجنوبية في مبادراتهم. وتأكيدا أن القضية الجنوبية هي المحور الأول في الأزمة الحالية, ويجب الاعتراف بها من قبل كل الأطراف بما فيها المعارضة, وخشية من فشل شباب ثورة التغيير والمعارضة في الشمال في إسقاط النظام.
ب. كثير من قيادات شباب ثورة التغيير والمعارضة ولاسيما في العاصمة صنعاء ومدن رئيسية أخرى أدلت بتصريحات علنية أنه لابد من التحرك للقيام بأعمال حاسمة. لأن البقاء على هذه الوضعية أصبح غير مجدي.
ت. المطلعون على ما يجري في ساحة التغيير بصنعاء أكدوا إن إطلاق تسمية جمعة الإنذار الأخير التي كانت يوم أمس الأول لم يأت من فراغ وإنما إنذار أخير وفعلي للرئيس صالح. وان هناك استعدادات كانت تجري لعمل هام وحاسم كان مفترضا خلال هذا الأسبوع, وأن هناك خطط رئيسية وبديلة وضعت لإنجاح هذا العمل الحاسم, وبما يفقد السلطات الحاكمة القدرة على مجابهته والسيطرة على الأوضاع. وأن هناك استعداد معنوي كامل لتقديم تضحيات في سبيل إنجاح تلك الخطط.
ث. موافقة الرئيس صالح وأحزاب اللقاء المشترك على المبادرة الخليجية كان سببا لتأجيل تنفيذ الخطة في هذا الأسبوع, ولكن هناك اعتقاد راسخ أن المبادرة لن تحل القضية, وأن هذا التأجيل لا يعني إلغاء التنفيذ الفعلي.
في اعتقادي كمراقب ومحلل سياسي للازمة الجارية في اليمن أن المبادرات الخليجية بنسخها الثلاث بإغفالها للقضية الجنوبية تكون حاملة لعوامل الفشل بين أحشائها, وستكون سببا رئيسيا في عودة الحراك السلمي الجنوبي وبقوة اكبر إلى ساحة النضال, وتبني دول الخليج المبادرة بنسختها الثالثة وبصورتها الفضفاضة لم ولن تساعد على حل الأزمة اليمنية الحالية حتى على مستوى الشمال, وإنما عقدتها, وأعطت السلطات الحاكمة طوق نجاه من الغرق, وفرضت على الأطراف المناهضة لسلطات صنعاء في الجنوب والشمال أن تلجئ إلى الخيارات الصعبة, التي ستجعلها تدفع تضحيات بشرية كبيرة لا سمح الله. وبهذا أن هذه القوى بقدر ما سوف تُحمل الرئيس صالح وأركان سلطاته المسئولية عن جرائم الفتك بتلك الضحايا البشرية المحتملة, فأنها سوف تعتبر دول الخليج شريكة في الجريمة.