برزت أصوليتان متقابلتان يحكمها افتراق ثقافتين مختلفتين: غربية وعربية إزاء الإعلان عن مقتل أسامة بن لادن في الثاني من أيار الحالي، وغياب خصمه اللدود جورج بوش الابن عن المشهد السياسي العالمي قبل أكثر من عامين.
ثقافة عربية إسلامية انقسمت نُخبها تجاه "الشيخ المقتول"، لكنها تعاملت معه على القدر ذاته من الخوف أو الهيبة، فالأنظمة الرسمية رفضت استقبال جثته ودفنها على أراضيها، في حين اختلف حوله الشارع ومثقفوه بين مؤيد ومعارض، مؤكدين على حضور مؤسس القاعدة الطاغي بين "الأسطورة" و"الحقيقة".
في المقابل، فثمة ثقافة غربية لم تكترث، كثيرا، لغياب بوش، بل إنها انتقدته بقسوة عندما أصدر مذكراته "قرارات حاسمة" العام الفائت، واستذكرت أغلب التهم التي وجهته إليه أيام توليه إدارة الحكم وأضافت إليها تهمًا أخرى من رفاق حزبه الجمهوري.
الرئيس الأميركي السابق لدى توقيعه
كتابه الذي صدر قبل أشهر (الأوروبية-أرشيف)
حذاء لا يُنسى
.
تهمة طريفة وجهت إلى صاحب "قرارات حاسمة" بأنه "نقل بعض فقرات كتابه عن كتب أخرى" وهو ما يتعارض مع الأمانة العلمية، وبقي الرئيس الأقل شعبية في تاريخ الولايات المتحدة، حسب استطلاعات الرأي المنتظمة، رغم محاولاته تحسين صورته عبر إصداره المذكرات، مما دفعه للتعبير عن خيبة أمله بالقول "حينما سيحكم عليّ التاريخ... سأكون ميتًا".
من جهة أخرى، السرديات التي تتعاظم حول المسؤول الأول عن تفجيرات نيويورك عام 2001 تستعير "أساطير شعبية" و"تسريبات إعلامية" لتناول شخصيته وهو ما يعني بقاء تأثيرها، حيث يلعب غيابه طوال سنين -عدا بضع تسجيلات بصوته- دورا في ذلك، ولو لفترة منظورة.
الرئيس الأميركي السابق غادر السلطة عام 2008، وقد ارتبطت صورته بمشهدين لا يمكن نسيانهما، الأول عندما ألقى عليه مواطن أرمني يدعى فلاديمير أروتينيان في مايو/ أيار 2005 قنبلة لم تنفجر معبرًا عن سخطه من سلوك بوش، والثاني مشهد رمي الصحفي العراقي منتظر الزيدي زوجي حذائه في ديسمبر/ كانون الأول 2008 في مؤتمر صحفي ونعته بوش بـ"الكلب".
أصوليتان: شرق وغرب
الأصولية التي حكمت بن لادن "المطارد" خلقت أيديولوجية وعقيدة تركت أثرها الشديد لدى مؤيديه من الإسلاميين والعلمانيين في الوطن العربي على حد سواء، في حين يبدو بوش "الأصولي" غير ذي أهمية في بلاده، بالنظر لموقعه "العادي" في سلطة تتعامل مع رئيسها بوصفه "موظفًا" يقضي فترة حكمه ويمضي!
سكان محليون يسيرون قرب البيت
الذي قتل فيه زعيم تنظيم القاعدة (الأوروبية)
أصولية مؤدلجة في شرق "روحاني" و"مهزوم" من أعداء كثر، تواجه "أصولية" غربية تسلطية تريد فرض هيمنتها على العالم؛ فتضطر الأصولية الأولى إلى رسم نموذجها الخاص لرمزها الذي يقترب من شخصية روبن هود الشهيرة في الغرب، مما يستهوي الشارع العربي الذي يفترض بدوره أن السلطات أو "الأجهزة الأمنية" التي تحكم بلاده هي امتداد لـ"تسلط" الغرب.
لذلك قد ينسى مؤيدو بن لادن ومعارضوه أنه لم يتجاوز الرابعة والخمسين من عمره لحظة مقتله، وأنه شغل بالهم منذ عقدين من الزمن، كما أن دراسته للهندسة وهجره إياها ليست لهما قيمة، مقارنة بقدرته على تعرية "فُجور" الهيمنة الغربية و"غطرستها"، كما يرى مؤيدوه، أو اعتباره "عميلاً" للمخابرات الأميركية وفق رؤية معارضيه.
ذروة التكثيف تتجلى في لحظة الإعلان عن مقتل بن لادن التي ستستهوي صنّاع السينما والدراما، وقد أُعلن، فعلاً، عن إنتاج فيلم يروي سيرة الشيخ السعودي (1957 -2010)، ذو الأصول اليمنية، و"الخؤولة" الشامية.
سيلحظ دارسو شخصية بن لادن، أن فرضية إنكار مقتله استحوذت على عقول كثيرين في المنطقة العربية، إذ نشرت مواقع إلكترونية عديدة بيانا تؤكد فيه أن الولايات المتحدة "تدعي" مقتل عدوها "الأول" في العالم، مدللين باختلاف لون البشرة وشعر الذقن وشكل الأنف بين الشيخ "الناجي دومًا" وبين من قُتل.
أسطورة بن لادن
"الإنكار" لا يستند إلى موروثات شرقية فحسب، بل إن عشر روايات غريبة تناقلتها وسائل الإعلام الغربية طوال العقدين الماضيين حول بن لادن، ففي أكتوبر 2001 أكدت أميركية أنها رأته في أحد المتاجر في ولاية يوتوا، وفي العام نفسه أبلغ رجل من كولورادو أنه رأى بن لادن يحضر أحد حفلات نادي الروتاري.
"حمى بن لادن" أصابت امرأة أميركية أبلغت الشرطة في فبراير/ شباط 2008 أنها رأته في مكتبتها المحلية في واشنطن، وكان يتصفح الكتب التي تحمل عنوان "بن لادن" وكان يبتسم في كل مرة يرى فيها كتابا عنه، كما شوهد برفقة مايكل جاكسون في إحدى كرنفالات المكسيك، إضافة إلى "روايات مماثلة" رواها مسؤولون أفغان وباكستانيون وإيرانيون حول عبور بن لادن لحدود بلادهم وفي تواريخ مختلفة.
باكستانيون تظاهروا ضد ما قامت به
الولايات المتحدة على أرض بلادهم (الأوروبية)
فريق عربي آخر تعامل بـ"واقعية" مع مقتل بن لادن ورضي له مكانة "الثائر الشهيد"، بعد أن قدّم ثروته في دعم المجاهدين الأفغان، حيث أسس "مركز الخدمات" في عام 1984 وحركة الأنصار بعد عامين، لينشئ تنظيمه الأشهر باسم "القاعدة" عام 1988 ويبدأ حربه ضد الغرب منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
الثورات العربية
"أصولية" تخبو بعد اندلاع الثورات العربية، هكذا يراها المثقفون العرب المقيمون الطرف الآخر، قد يبدو أبرزها ما قاله الباحث والكاتب الفلسطيني سلامة كيلة للجزيرة نت "قيل بأن بن لادن قد قتل، في كل الأحوال نقول بأن المنطق الأحادي الذي وحّدهما لم يرحل بعد. بوش أورث أوباما الذي استمر في السياسة ذاتها رغم الوهن الأميركي، و"الجهادية" التي تبلورت مع بن لادن تعيش حالة الوهن كذلك. ربما هذا الوهن هو الذي فرض أن يختفي بن لادن اليوم".
"اختفاء" يعلله الكاتب كيلة بأن "الولايات المتحدة أنهضت الأصولية تحت شعار تحالف الإيمان ضد الإلحاد في الحرب ضد الشيوعية، ويقود تفاقم الصراع الاجتماعي في بلاد العرب خصوصا إلى تجاوز كل "المتكئات الثقافية" والهوامش، ويسقط الأحادية التي هي مصاغة لدى الأصولية عند بوش وبن لادن، لمصلحة أفق مجتمعي واسع".
وأكد الكاتب الفلسطيني أن "الأصولية بالتالي باتت في تراجع إذا لم نرد القول بأنها باتت من الماضي، سواء بقي بن لادن أو رحل. فالمجتمع الشاب قد نهض متجاوزا السلبية التي كانت تعيد بعضه إلى الماضي، ليصنع المستقبل".
هيتشستر هاسمت وهو مواطن من كولومبيا يعمل حارسا ويسمي نفسه أسامة الكولومبي (الأوروبية)
الثوّار يستلهمون رمزيته
الباحث الأردني المتخصص في الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية يخالف وجهة نظر كيلة، مشيرا إلى أن روايات عدة ستتولد حول مقتل بن لادن وحول سيرة حياته أيضا، ليس لدى القاعدة والسلفية الجهادية بل لدى فئات أخرى في الوطن العربي والعالم أجمع.
ويرى أن الشعوب العربية التي تحررت من أنظمتها مثل تونس ومصر وتلك التي في طور التحرر كاليمن وليبيا، هي الأكثر انفتاحا في التعبير عن تعاطفها مع مؤسس القاعدة، وقد وصفته بعض التنظيمات في تلك البلدان بالشهيد البطل والرمز الأسطورة.
ويعتقد أبو هنية أن تحول خطاب القاعدة منذ عام 2009 من انتقاد الفساد والاستبداد في الوطن العربي إلى التركيز على القضية الفلسطينية ونقد الهيمنة الأميركية والعولمة هو ما سيدفع إلى الاستمرار في التعاطف مع فكر القاعدة، وليس أدل على ذلك من "اضطرار" حركة حماس إلى إدانة مقتل بن لادن.
ويبقى السؤال: هل تتراجع أسطورة بن لادن مثل الأصولية أم تتضخم؟ وهل تخفت سطوتها لحظة تجسيد شخصيته في السينما الغربية أم تخلدها؟ ومن جهة أخرى هل يعيد التاريخ "الاعتبار" لبوش؟ كما تمنى لنفسه
المصدر الجزير نت