بالرغم من صعوبة توقع الثورات السياسية قبل وقوعها، و هو الموضوع الذي حللته في مقالي السابق (بعنوان ثورة تونسية لم تكن في الحسبان)، يبدو في الوقت الحاضر على الأقل إن سقوط بن علي و مبارك جاء نتيجة تراكمات سنوات طويلة كانت أشبه بقنابل موقوتة لم تكن تنتظر إلا الشرارة التي أشعلها الشاب محمد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر الماضي.
أول هذه القنابل تتمثل في المركزية الرهيبة التي أفقدت مختلف المناطق القدرة على إدارة شؤونها بنفسها، و التي اتسمت بعجرفة المسئولين الذين يدينون بتعيينهم لهذه المناصب للسلطات المركزية في الدولة لا للمواطنين. و هذا ما يفسر رفض محافظ سيدي بوزيد مقابلة محمد البوعزيزي عند مطالبة الأخير بذلك. و كانت نتيجة هذا الرفض فقدان البوعزيزي لحياته و فقدان زين العابدين بن علي (و نظيره المصري حسني مبارك) لكرسي الحكم.
لقد كان من السهل تعيين هؤلاء المحافظين من أبناء المحافظات مما يسهل تواصلهم مع المواطنين، و الأفضل بطبيعة الحال أن يتم انتخابهم بصفة مباشرة. الفشل على هذا المستوى زاد من الفرقة بين المناطق النائية و مركز الحكم. لذلك فلا غرابة أن انفجرت الانتفاضة التونسية من سيدي بوزيد لا من كبرى المدن.
أما القنبلة الموقوتة الثانية التي قضت على بن علي فهي المتمثلة في حوالي 150 ألف من الشباب حاملي شهادات التعليم العالي و العاطلين عن العمل.
لقد حقق كل من بن علي و مبارك مضاعفة نسبة الشباب الملتحقين بالجامعات من 9% و 16% على التوالي في سنة 1990 إلى 31% و 35% على التوالي في سنة 2007 ، لكن كلاهما كان كمن يحفر قبره بيديه، من خلال هذه العملية. ربما اعتقد المخلوعان انه بإمكانهما اكتساب شعبية بدون مقابل من خلال حشر آلاف الطلبة في مدرجات لتلقينهم معلومات لا تصلح للحياة العامة و أسواق العمل، و منحهم اثر ذلك شهادات لا تفوق قيمتها قيمة الورق الذي كتبت عليه. لكن الخدعة انتهت بالدور الذي لعبه هؤلاء الشباب في تأجيج لهيب الثورة و انتقالها إلى المدن الكبرى مما سارع بسقوط النظامين.
فشل بن علي و مبارك على هذا المستوى ليس فقط في فشلهما في بناء مؤسسات جامعية مرموقة، كما هو الحال في تركيا و ماليزيا و حتى الهند، بل يتعداه إلى الفشل في توفير تكوين مهني يعد الطالب للمساهمة في الأنشطة التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني، مثل السياحة و الخدمات الصحية و صناعات النسيج و الملبوسات، و هو تكوين منخفض التكلفة و يساعد على وجود فرص عمل بسهولة سواء داخل الدولة أو خارجها.
و أما القنبلة الموقوتة الثالثة فهي تتمثل في عدم تحقيق نمو اقتصادي مستدام، أي بحدود نسبة 7% سنويا. اعتبر كل من بن علي و مبارك أن 5% نمو هي نسبة كافية و مقبولة. لكن هذه النسبة لم تكن قادرة على توفير العمالة المطلوبة، و نتيجة ذلك تراكمت إعداد العاطلين، و التي تحولت مع مرور الزمن إلى جيش احتياطي ضخم تم تجنيده مع بداية الاحتجاجات مما أعطاها زخما مكنها من الاستمرار و التوسع، و حولها بعد ذلك إلى انتفاضة عارمة. كما أن ضعف نمو معدل دخل الفرد في هذه الحالة (4% في تونس و اقل من ذلك بنقطة مئوية في مصر نتيجة النمو السكاني) لم يكن يتماشى مع التوقعات العالية للمواطنين، خصوصا سكان المدن و المناطق السياحية المنفتحين بطبيعتهم على العالم الخارجي. لذلك لا غرابة أن شهدت المناطق التونسية الساحلية المرفهة نسبيا، مثل الحمامات و المنستير و سوسة و صفاقس، مظاهرات كبرى، توجها الإضراب العام في مدينة صفاقس الذي كان بمثابة الشعرة التي قسمت ظهر بن علي. و يمكن أن نقول نفس الشيء بالنسبة لمصر.
لا شك إن تفشي الفساد لعب دورا محوريا في سقوط المخلوعين. التقديرات المتوفرة تشير إلى عمليات تهريب للأموال الرئاسية تقدر سنويا بحوالي 2 مليار دولار في مصر و مليار دولار في تونس، حسب مؤسسة سلامة القطاع المالي العالمي
“Global Financial Integrity”. و يمثل هذا المبلغ 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي الوسطي التونسي (لسنة 2005 على اعتبار أن عمليات التهريب هذه وقعت في مجملها خلال العقد الأخير)، مقارنة بنسبة 2% في الحالة المصرية. و الاستحواذ على هذه الأموال لا يمكن أن يكون إلا على حساب شرائح واسعة من المواطنين الذين انهارت مقدرتهم الشرائية النسبية تدريجيا، مما زاد من حدة السخط الشعبي على النظام.
تبقى القنبلة الموقوتة الخامسة و الأخيرة في هذا المقال، و هي قنبلة الانفجار السكاني التي لم تنفجر في تونس لان تفكيكها بدا منذ الستينات من القرن الماضي على يد باني الدولة التونسية الحديثة الزعيم الحبيب بورقيبة. لكن باقي الدول العربية كانت اقل حظا. خلال الانتفاضات الشعبية الأخيرة دفع الحكام العرب ثمن فشلهم في إتباع سياسة حازمة لتحديد النسل، و لن يجدوا غير أنفسهم لتوجيه اللوم بهذا الخصوص.
اليوم و المخلوعان بن علي و مبارك في أسوا الحالات، الأول معزولا ملاحقا من الانتربول و الثاني في الحبس، قد لا تعنيهما كثيرا مراجعة عوامل السقوط، بما في ذلك القنابل الموقوتة المنوه عنها في هذا المقال، لكنه من الأهمية بمكان أن تتعظ الأنظمة القائمة بأسباب ما حصل و العمل بجدية لتلافي النقص الواضح في تعامل الرئيسين السابقين لتونس و مصر مع هذه المخاطر.