كلما رأيت دبابة سورية بتصوير رديء بواسطة هاتف على شاشة ما تذكرت بحزن مقولة'جيشنا العقائدي هو أمل العرب في تحرير فلسطين'.
كانت هذه العبارة مكتوبة بخط رقعة جميل على جدار يحيط ببركة سباحة طبيعية في قرية بانياس السورية المحتلة في الجولان العربي، وهي غير بانياس المدينة الساحلية التي أخلاها مؤخراً 'جيشنا العقائدي' بعدما ظن أنه طهرها من المدسوسين والمتمردين.
كنا نحن عرب بقايا النكبة ممنوعين من التنقل بين قرانا ومدننا إلا بتصريح من الحاكم العسكري، ومن المفارقات أنه لم تكن هناك فرص كثيرة للخروج من القرى العربية والتجول في وطن الآباء والأجداد إلا في ذكرى يوم النكبة وهو يوم استقلال إسرائيل، فكان القليلون من الذين يملكون سيارات في تلك الفترة وخصوصا أصحاب الشاحنات الكبيرة يعدونها لهذا اليوم فيملأونها بكراسي قش و'طراريح' لجلوس الأطفال في رحلة مجانية لوجه الله وذلك أن شرطة السير تتسامح في هذا اليوم مع المخالفين إكراماً للاستقلال وإمعاناً في النكبة، ولهذا كان يوم النكبة المستقل أو الاستقلال المنكوب مناسبة لكثير من الناس للتنزه خارج قراهم إلى أن زال الحكم العسكري عن العرب عام 1965 وسمح بالتنزه بدون تصريح خاص من الحكم العسكري.
في سنوات متأخرة صار كثيرون يخصصون يوم النكبة لزيارة القرى المهجّرة بشكل فردي أو جماعي منظم بعدما كانت هذه القرى مغيبة مثل سرٍ عميق ممنوع التنفس به، وكان الدخول إليها مثل الدخول إلى معسكر جيش يحوي أسراراً هامّة تودي بمن يفعل إلى التهلكة، وفي هذا العام أخذت بعداً وزخماً جديدين في أجواء الثورة العربية الكبرى.
كانت رحلتنا الطفولية قبل حرب النكسة تصل حدود وقف إطلاق النار مع سورية عند سفوح الجولان، ثم تهبط بنا شاحنة زوج خالتي وهي من نوع (سكانيا) لونها برتقالي إلى بحيرة طبريا، ولم يطل الوقت حتى احتل الصهاينة الهضبة، واتسعت الرحلة شرقاً لنرى مكان موقعة تل فاخر التي كانت المفتاح لاحتلال الجولان وقد أبلى فيها الجيش السوري بلاء حسناً بشهادة الإسرائيليين، ثم إلى بانياس حيث تلك البركة التي كتب على جدارها ذلك الشعار 'جيشنا العقائدي هو أمل العرب في تحرير فلسطين'.
كنا أطفالاً نرافق ذوينا إلى بانياس ونهرها وشلالها في رحلة عائلية أو مدرسية، نطل على بركتها فنرى الجنود والمجندات،والمواطنين الصهاينة وغير الصهاينة يسبحون في مياه البركة الباردة، يقفزون في فرح ومرح، يتعانقون ويتبادلون القبلات وما هو أكثر حرارة من القبلات على خلفية العبارة العقائدية، أذكر أنني فهمت ولم أحتج لسؤال أحد عن ما تعنيه جملة 'جيشنا العقائدي هو أمل العرب...' رغم عدم وضوح العقيدة التي آمن بها الجيش العربي في ذلك الوقت بالنسبة لطفل في التاسعة.
هذا الشعار بقي لسنوات كثيرة على جدار البركة وكنت أستغرب في كل مرة أراه بعد سنوات عدم تدخل الجنود الإسرائيليين لمحوه، حتى ملت للاعتقاد أنهم تركوه للذكرى، وبالتأكيد أن معظمهم لم يفهم العبارة العربية حتى محيت بفعل عوامل الزمن والطقس.
ما حدث قبل أيام في ذكرى النكبة على شريط وقف إطلاق النار مع سورية هو صورة للزمنً العربي الجديد، هناك عند تلة الصيحات كثيراً ما وقفنا نسمع الخطابات المتبادلة على جانبي الشريط والتي تمحور معظمها على كيل المدائح للرئيسين السابق والوارث اللاحق، وكان الخطباء وخصوصاً من الجانب السوري ممثلين لقيادات حزب البعث المختلفة وفصائل فلسطينية مقيمة في سورية تنطق كلها بعبارات وكليشيهات حُفظت عن ظهر قلب حتى تحولت إلى أمر شكلي، ليس للكلمات فيها أي ثقل واقعي، بل أن الكلمات الكبيرة تحاول التغطية على واقع عاجز.
في الذكرى الثالثة والستين للنكبة، دبابات جيشنا العقائدي تقمع من يهتفون 'حرية حرية' داخل سورية وتغض الطرف على غير عادة عن أولئك الذين جاؤوا إلى الشريط الحدودي ليعبروه ويدوسوا على الألغام في طريقهم إلى زخات الرصاص بصدور مفتوحة كأنها زخات برد وسلام، وكأن النظام السوري فطن الآن وبجدية أن الجولان ما زال أرضاً محتلة وأن فلسطين ما زالت قضية بلا حل في جميع تشعباتها، وبالمناسبة فإن عدد المهجّرين السوريين من قرى الجولان التي هدمت عام النكسة لا يقل عن عدد اللاجئين الفلسطينيين في سورية وربما يزيد.
النظام في سورية حسبها بالربح والخسارة، فهو بأمس الحاجة لصرف النظر ولو قليلا عن أسماء مثل درعا وبانياس وحمص والشبيحة وريف دمشق ورامي مخلوف والمندسين والقناصة وحوالي تسعمئة شهيد وآلاف المعتقلين والمفقودين، كأنه يستجدي عطف الثوار بأنه نظام وطني وقومي، وكأنما يقول للناس 'أنا أفضل من غيري فاقبلوني وغضوا الطرف عن سفالتي، أما أنتم يا أمريكا ويا إسرائيل ويا أوروبا فانظروا ما الذي يمكن أن يحصل بدون نظام حديدي يضبط الأمور ويعرف أصول اللعبة، هل فهمتم الآن رسالة السيد مخلوف بأنه لا هدوء لإسرائيل بدون هدوء في سورية؟
إدارة الصراع في إسرائيل بوغتت من هذا الاقتحام العملي البعيد عن الخطب الرنانة، لم يتوقع مديرو الصراع في إسرائيل من النظام السوري أن يسمح بخرق أمر متفق عليه ضمناً منذ أربعة عقود 'صباح الخير يا جاري إنت بحالك وأنا بحالي'. توقعوا مرة أخرى سحجة وهتافات ومدائح ربما أقوى من السابق، ولكنهم لم يتوقعوا هرولة المئات في مواجهة الموت كأنما يتدافعون إلى حلقة دبكة وفقط كي يدوسوا على تراب أقرب إلى تراب فلسطين، أقرب إلى بيوتهم وحاراتهم في الجليل الأعلى، لم يتوقعوا أن يدهن بعضهم جسده بوحل وتراب الوطن المحتل كي يجعله حناءً وعطراً على جسده لجعل الحلم رؤيا قابلة للتحقيق، لم يتوقعوا أن يخاطب والدٌ في مخيم اليرموك ابنه 'لماذا رجعت حياً...ألم نتفق على أن تستشهد هناك قريباً من تراب وطنك؟'!
انتهى عصر وابتدأ آخر، الشعوب العربية هي العقيدة وليس الأحزاب، وبات واضحاً أن التحرير لن يتم بالدبابات والطائرات لأنها لم تعد أصلا لهذه المهمة السامية، التحرر سيتم أولاً بتنظيف الانسدادات المرورية من الطغم الفاسدة التي شلت طاقات الشعوب العربية وسممت معيشتها ونهبتها وأذلتها بين الأمم، شعب فلسطين والشعوب العربية المتحررة من طغم الفساد وعبادة الأفراد والنفاق معاً كفيلة بإعادة الحقوق لأصحابها بطرق كثيرة وإبداعية، ودرهم عمل خير من قناطير مقنطرة من المهرجانات الخطابية والهتافات وحتى من المسيرات 'الكفاحية' التي حولت الجماهير العريضة إلى ظاهرة صوتية ومستنقع زعيق في واد غير ذي زرع، في هذه الأيام المباركة عاد 'صوت الجماهير ليكون 'انتفاض عزم الأبطال' وعاد وطني حبيبي الوطن الأكبر يوم ورا يوم أمجاده بتكبر...وانتصاراته...بالتأكيد ستملأ حياته...