سمعنا جميعا عن المؤسسات والجمعيات والجامع والفعاليات الرياضية والمهرجانات والفرق الفنية بل والمطبلين التي تنسب جميعها للرئيس الصالح حتى كانت اليمن على وشك ان تعلن جمهورية الرئيس الصالح. جميع هذه المؤسسات والاتباع صارت هباءا منثورا عدى الاسم الذي كان مجهولا حتى جمعة الأمان يوم 3 يونيو 2011م ذلك الأسم المجهول هو مؤذن الرئيس الصالح. دخل محمد الغادر "مؤذن مسجد الرئاسة" او ما يسمى بمسجد النهدين التاريخ من اوسع الأبواب فقد اصبح اخطر رجل في العالم واول المطلوبين الدوليين بعد زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن الذي قتل الشهر الماضي. فشلت فرق وقوات مكافحة الارهاب الامريكية التي تملك ادق المعلومات والمزودة بأحدث المعدات ومنها أجهزة التجسس والمراقبة المنصوبة في الأرض والجو على مدار الساعة ومعها القوات اليمنية الخاصة التي صرفت امريكا على تدريبها وإعدادها ملايين الدولارات جميعها فشلت في تعقب المؤذن الغادر حتى تحول إلى لغز محير بل وربما مالك للجن إن لم يكن هو شخصيا ما نعرفه في تراثنا الشعبي ب "الجني الأزرق" الذي لن يعرف له مكان.

تكمن عظمة الأشياء في بساطة فكرتها, تبدو سهلة وممكنة لكنها لا تخطر على بال احد قبل اكتشافها. من يتخيل ان الصفر يعد من اعظم الاكتشافات التي غيرت مجرى التاريخ. لقد فشلت في محاولة اقناع صديقي بل ولم يسمح لي بان اشرح له ماذا فعل الصفر في علم الرياضيات التي تعد الأساس الفكري لكل العلوم الطبيعية لأن صديقي يقول لي هذه النقطة هي اكتشاف تاريخي عظيم لابد وانك تمزح .

مجزرة مسجد النهدين وهو ما يمكن تسميته بمقبرة النهدين تعد من ابدع المؤامرات في حبكتها وقلة تكاليفها. هي عملية حصدت معظم رموز السلطة بمن فيهم صالح ووأدت معها أي رد فعل كان سيقوم به اتباع صالح لو انه تعرض لمحاولة اغتيال وهو ما جعل الكل يتردد في التفكير به. هي تشبه في حبكتها ما فعله محمد علي بالمماليك في القلعة في مارس عام1811 م, الواقعة التاريخية الشهيرة التي تخلص بها محمد علي باشا من خمسمائة مملوك من كبار قادتهم ذوي الأصول الألبانية الذين حكموا مصر مع اختلاف ادوات التنفيذ فمذبحة القلعة نفذها جمع كبير من جنود محمد علي الأشداء لكن مذبحة مقبرة النهدين لم تحتاج إلا إلى مؤذن واحد عالي التقنية والتدريب. الفكرة واحدة وربما تتشابه مع ما فعلته قيادة الحزب الاشتراكي في 13 يناير 1986م التي دخلت التاريخ ايضا لكن فكرة المؤذن هي الأكثر حنكة والأكثر دهاء فلم تحتاج إلى قوات واعداد ومجازر جانبية تسند المجزرة الأولى وتلاحق القادة هنا وهناك فكان ذلك سببا رئيس لفشل انقلاب 13يناير.

عملية مقبرة النهدين سارت بهدوء وتكتم شديدين حتى لا تثير الضجة وتسبب ردود الأفعال وهو ما يفسر معجزة اختفاء المؤذن في محاولة لتبرير عدم الكشف عما حصل بالضبط في مقبرة النهدين ومن اجل تتويه المراقبين عن حقيقة ما جرى ومايجري الآن.

المؤذن الزوبعة لا يختلف بعمله المحيّرعن من فجر البارجة الأمريكية الاسطورة يو إس إس كول عام 2000م الذي يؤكد الخبراء انها محصنة ضد أي هجوم مسلح مهما كان نوعه وان الأسلحة التي يمكن لها ان تحدث فيها اضرار لا تملكها سوى دول بعدد اصابع اليد الواحدة مما يعني ان وراء الأكمة ما ورائها حيث دفن رئيس فريق التحقيق في الحادثة هو وملفاته في برج التجارة العالمي في تفجيرات 11 سبتمبر 2001م.

لن يعرف احد مصير مؤذن الرئيس الصالح وتفاصيل مجزرة مقبرة النهدين قريبا لان ذلك صار من اسرار الدولة العليا في القصر الملكي بالرياض والبيت البيض على حد سواء, لكن الرواية التي ستخرج لنا سيتم نشرها بعد استكمال الترتيبات اللازمة لشكل السلطة سواءا عبر اقناع اطراف الصراع في دولة حاشد او بعد استكمال احتواء ثورة شباب الشوافع في تعز وبعد بسط عناصر علي محسن الجهادية على الجنوب عبر تمزيق اوصاله وتعويمه في برك الدماء.

المؤذن الدولي الغادر ليس شيخا وليس له علاقة بعائلة الشيخ ناجي الغادر الذي لقي حتفه في مجزرة مماثلة لمجزرة مقبرة النهدين في صحاري محافظة شبوة في عام 1972م داخل خيمة الجبهة القومية هو ومرافقيه المقدر عددهم بخمسة وستون من مشائخ خولان من قبيلة بكيل المنافسة لقبيلة حاشد وابرزهم الشيخين حنتش والهيال في مساهمة كريمة من قيادة الجهة القومية لترتيب اوضاع السلطة في اليمن لصالح قبيلة حاشد ضمن مسلسل تمكين حاشد من الاستيلاء على الحكم في اليمن والحاق الجنوب بها. ورغم ان المؤذن الغادر كان يسربل ويصدح بصوته الرنان كل يوم خمس مرات ب)حيا على خير العمل( على خلاف ما يصدح به مسلمي عبدالله فيلب المجاهدين الخوارج الذين سيخلصون اسلامنا من الشوائب فقد كان ذلك ضروريا لإجادة الدور واخفاء الانتماء.

كيف حقق المؤذن الرهيب حلم ظل يراود دول مجلس التعاون والتحالف الدولي مجتمعين, فقد سادت القناعة لديهم جميعا ان صالح قد انتهى دوره وصار عبئا على الجميع بل وشرا يعرّض مصالحهم للخطر لكن كل دروب التغيير كانت مسدوده امامهم اللهم من شيء واحد هو ان التغير لابد وان يتم عبر مؤسسة القبيلة نفسها وهو ما سعت له كل الجهود وكان آخرها المبادرة الخليجية لكن دون جدوى مما جعل من خيار المؤذن )الإنترناشونال( ضروريا كخطوة تمهيدية لفرض المبادرة.

كانت كل الجهود والمساعي قد فشلت في محاولة إزاحة صالح بسبب تعنته ورفضه ان يكون كبش فداء, اغاضه حلفاءه الذين قفزوا من السفينة عندما ظنوا انها على وشك الغرق وانضموا إلى فسطاط الثورة فكان رد صالح عنيفا ومتصلبا وقرر هدم المعبد على من فيه مما استدعى وجود مؤذن يستطيع عبور حواجز القصر الأمنية الخمسة المتطورة جدا التي يجتازها كل من يريد دخوله والوصول إلى صالح.

كان المؤذن هادئ الطباع شجي الصوت سحر صالح بصوته الرخيم رغم ان صالح لايلق بالا لسنن الوضوء والركوع والسجود فهو يسربل أحيانا ويضم أحيانا اخرى وربما انه لا من هؤلاء ولا من اولئك والله اعلم. لكن المؤذن كان قد تدرب على المهمة في مدرسة الخوارج الجدد فيكفي ان تسلم له الفتوى ليقوم بتنفيذها وهي تبدو مبررة منطقيا ودينيا بالقاعدة الفقهية "درء الضرر بضرر اقل منه".

لم يكن المؤذن الخيار الأول امام من يتحكم بمصير اليمن وامام حلفاء صالح الأقوياء بل انهم بذلوا المساعي لخروجه من السلطة عبر الإغراء والوعيد وعبر الضغط المكثف بالاشتراك مع رجالهم في اليمن علي محسن وحميد الأحمر زعيمي التيار القبلي والعسكري ومعهم فقيه السلطان المتمرس الشيخ الزنداني صاحب منهج "فتاوي بلا حدود" جميعهم دون شك اليوم يحصدون نتائج مآثرة المؤذن الغادر الذي اصاب اكثر من مائتي صقر بحجر واحدة.

قالوا في علم الجريمة من اجل معرفة الجاني " ابحث عن المستفيد" وهنا يبدو الفعل واضح المعالم فمن يسعى لتحقيق إزاحة صالح هم من حملوا المبادرة الخليجية ومعهم الثوار الجدد الذي ركبوا موجة التغيير بقيادة السفير الأمريكي ورفاقه, فمهما بدت معالم واثار المجزرة باهته إلا ان بصمات القاعدة ليست إلى هذه الدرجة من الغموض وخاصة تلك القاعدة التي يرعاها الجنرال على محسن بعلم الجميع والغير مطلوب امريكيا.

من يظن ان الأمور تسير بالبركة فإننا ندعو له بالستر, لكن تشابه الأحداث وتكرار المشاهد تشير إلى ان كل شئ يسير بترتيب دقيق وان البلدان اليمن والجنوب لا يملكان من امرهما شيئا منذ مغادره الإمام قصر البشائر في سبتمبر1962 م وآخر مندوب سامي بريطاني همفري تريفيليان القصر المدور في عدن في 30نوفمبر 1967م .اللحظة التاريخية تتكرر اليوم وكأننا في مؤتمر المصالحة بين الجمهوريين والملكيين الذي عقد في خمر في نوفمبر 1965م فالثورة في تعز والسلطة لصنعاء.

من خيمة الغادر والهيال إلى طائرة الدبلوماسيين وقاعة المكتب السياسي ومقبرة النهدين يبدو ان المخرج واحد. فطالما وان اليمن والجنوب كانتا دائما مرتعا للنفوذ الإقليمي والدولي فقد ظل حكامها ومعارضيها مجرد ادوات تحركها اصابع ليست خفيه. ومثلما يعتز اليمني باسمه كغادر فإن الكثير من اليمنيين والجنوبيين على حد سواءا يتباهون بولائهم وعمالتهم للأجنبي ولا يتحرجون في ذلك.

قبل ان يخرج المؤذن من مخبأة فإن بلدينا ستظل مسرحا للصراعات الخارجية اطرافها السعودية والخليج العربي و ايران وامريكا مثلما كانت ايضا مرتعا للاتحاد السوفيتي والغرب وقبلها مصر والسعودية وستطول مراقبتنا لتحركات السفراء المتعددين الجنسية اليوم وفي اكثر من مناسبة.

لقد بدأت اللعبة على اعلى المستويات فمن يتجاهل مطالب شعب الجنوب العربي وثورته في تحقيق الحرية والاستقلال ومن يسعون لإغراقه بالدماء عبر زرع المتطرفين اليمنيين والعرب كي ينهشون في جسده لتمزيقه وخلق المبررات الكافية لاجتياحه لا يدركون انهم يهيئون لفتح ابواب جهنم على المنطقة كلها التي تقف امام مخطط سايكس بيكو الجديد الذي يستهدف تقسيم السعودية وبسط اليد على ثروات المنطقة كلها كغنيمة للقوى الدولية ومنها إيران فحتى يظهر المؤذن الغادر دعونا نؤذن جميعا بدلا عنه ولنبدأ ب"حيا على خير العمل".

*كاتب وناشط سياسي من الجنوب العربي

مقيم في بريطانيا

annaqeeb@yahoo.co.uk

من العجيب أن الأخ عبده النقيب اقتنع برواية النظام بأن المؤذن هو الفاعل ، وان يبني مقالة على التسليم بصحة الادعاء .