إن موت المرء في سبيل الوطن , الذي لا يختاره في العادة, يفترض عظمة أخلاقية لا يمكن ان يبلغها الموت في سبيل حزب العمال, أو الجمعية الطبية الأمريكية, او حتى في سبيل منظمة العفو الدولية, لأن هذه جميعا كيانات يمكن للمرء أن ينظم اليها أو يغادرها بمشيئته. بندكت اندرسن (الجماعات المتخيلة)
الذي استمع جيدا وبدقة لحديث الشهيد / محسن الصهيبي بعد تعرضه لعقاب جماعي من قبل ستة جنود تقطعوا له في طريق العودة اليومي, وبصحبته طفله الصغير (صبري) سيجد في حديثه ما يفيد بأنه قد حمل معه في طريق الذهاب "علم الجنوب" والذي كان النزاع حوله محتدا ما بينه وبين الجندي الأول الذي التقاه في طريقه, وسيصل الى نتيجة أخرى – قبل ان نتحدث عن النتيجة الأهم – وهي ان الشهيد قد جاهد وعانى حتى تمكن من سحب العلم والخروج به من المأزق وهو في حوزته دون أن يتخلى عنه, والعلم الذي استمات من أجله الرجل ولم يفرط فيه, كان علم الجنوب الذي هو في مخيلة بطلنا الوطني الصهيبي رمزا للوطن ككل. لكن النتيجة الأهم التي فضلت ان تكون مقدمة هذا المقال الذي كرسته للحديث عن "المناطقية البغيضة" هي ان الشهيد كان يحمل في وجدانه ككل أبطال وشهداء الجنوب "علم الجنوب" ولم يكن يحمل علم منطقته او حتى محافظته, كما انه وكأمر طبيعي لسلوكه النضالي كان يدافع عن "وطن" يمتد في مخيلته النقية - الصافية - الطاهرة من المهرة شرقا الى باب المندب غربا, واجزم يقينا ان شهيدنا وجميع شهداء الجنوب حينما سقطوا على تراب الوطن تحت نيران وغطرسة المحتل إنما فعلوا ذلك بدافع وطني كبير يتجاوز المناطقية الضيقة والحزبية الأضيق... ولا اعتقد ان أحدا منا يمكن ان يقول خلاف هذا!
وإذا أردنا أن نؤكد ما جاء به صاحب كتاب (الجماعات المتخيلة) من الناحية العملية واتخذنا من الشهيد الصهيبي مقياسا لذلك, لوجدنا ان النظرية التي تحدث عنها فيلسوف علم الاجتماع صحيحة 100% , فما كان الصهيبي أو أيا من شهداء الجنوب يملك الاستعداد أو الرضى النفسي لتقديم نفسه قربانا لأي حزب سياسي مهما كانت درجة إيمانه بهذا الحزب او حتى تلك الجمعية الإنسانية ان وجدت , ولكنه كان وبحسب حديثه المسجل على "اليوتيوب" مستعدا لتقديم روحه – وقد فعل – في سبيل الوطن الجنوبي الذي يحتل في وجدانه وعقليته قيمة كبيرة تتجاوز قيمة حياته الشخصية . وحتى قيمة "فلذة كبده" صبري الذي أعلن الشهيد ببراءة كبيرة كم هو "متعلق به" .
ان أكثر الأطروحات "عجزا" هي تلك التي تتحدث عن المناطقية من ضمن حسابات الوطن, وهي أطروحات لا تتورع عن الزج بهذا "المرض" في مختلف المواقف لتبدي في شأنها العديد من المحاذير والتوجسات في أحسن الأحوال والتهديد باستخدامها ابتزازا في أسوأها. ولقاء بروكسل الأخير قيل في شأنه الكثير من هذا الباب تحديدا! وفتح البعض نيران كثيفة تجاه هذا اللقاء بوصفه قد عكس إلى هذه الدرجة او تلك "مناطقية" في الحضور تجلت بأغلبية كبيرة من محافظة واحدة! ما أسفر عن اختلال توازن في تمثيل المحافظات بحسب هذه المقولة! .. وفي هذا الجانب لا بأس من الحديث بشفافية وانفتاح فيما يخص هذا "التمثيل المناطقي" في بروكسل قبل ان ننتقل الى جملة ما يمكن ان يفرزه مثل هذا الطرح من خطورة كبيرة تجاه مجمل قضايا الوطن.
لهؤلاء الأخوة نقول ... لو كان لقاء بروكسل "التشاوري" مؤتمرا وطنيا للجنوب, لكان لحديثهم حول اختلال التوازن المناطقي بالنسبة للحضور قد اكتسب "قيمة ومعنى" .. على اعتبار ان من وظائف المؤتمر الوطني الخروج بجملة من القرارات والتوصيات والتشكيلات القيادية التي تعكس رأي المؤتمر الوطني في قضايا الوطن الهامة بشكل عام, والمؤتمر الوطني يكتسب تسميته أساسا من قيمته "التمثيلية" بهذه الدرجة او تلك للوطن ككل, ويصبح "التمثيل المتوزان" شرطا ضروريا لنجاح المؤتمر من باب أول, وهذا معيار سياسي متعارف ومتفق عليه على جميع المستويات, في حين ان اللقاء التشاوري لا يشترط هذا التمثيل أو التوازن المناطقي على حد قولهم, والأمر بنفس الدرجة ينسحب على قوائم اللجان التحضيرية للمؤتمر التي من ضمن مهامها "التحضير والترتيب والإعداد" للمؤتمر الوطني من خلال التواصل مع ((جميع)) فئات المجتمع الجنوبي وشرائحه وفئاته السياسية والثقافية والدينية وغيرها. علما بأن معايير "الانتداب للمؤتمر" لم يتم إقراراها بعد, وان كان التكهن بجوهرها امراً ممكنا ويسير لكل مطلع.
إذا كان لدينا عشرة الآف مغترب " جنوبي " في أمريكا على سبيل المثال من منطقتي يافع والضالع ,- وهي شريحة لا يجب ان ينظر إليها من قبل "الوطني الجنوبي "إلا بصفتها شريحة جنوبية فقط – فكيف يمكن للفكر "المناطقي" وهو يحاور المنطق ان يطلب من هؤلاء جميعا ان يختصروا حضورهم و تمثيلهم في لقاء بروكسل تحت طائلة ذنب لا علاقة لهم به وهو إنهم جميعا ينتمون بحسب هذا "التفكير" الى منطقتين فقط من الجنوب!! ومن أجل ذلك , فما عليهم الا أن يبحثوا "بالكشاف المناطقي" ذاته عن إخوة لهم في أمريكا ينتمون إلى مناطق أخرى او محافظات أخرى خلاف مناطقهم ومحافظتهم, ليصبح العطاء الوطني الذي يقدمه عشرة آلاف "جنوبي" بموجب هذا المعيار المجحف, يتساوى مع ما يقدمه خمسة أفراد او اقل او اكثر من منطقة أخرى... فقط لأنهم من غير هذه المناطق!! .. ترى أي منطق هذا الذي يتحدثون عنه؟!
ان الفكر المناطقي يشترط على صاحبه دون ان يدري ان ينظر للوطن ككل على انه "غنيمة" قابلة للقسمة المتساوية بحسب المناطق, وتصبح من مهمة المناضل الوطني في هذه الحالة, ان يبحث, وبكل ما أوتي من قوة عن "حصة منطقته" في هذه الغنيمة الكبيرة (الوطن) ! ..وشر البلية في ذلك, ان صاحب هذا الفكر سيجد نفسه وقد اختزل الوطن بكل قيمه ومعانية العظيمة النبيلة الى مجرد "حصة" لمنطقته العزيزة التي يبحث عنها.. وسيصبح الإخلاص والتضحية من اجل الوطن في هذه الحالة مرتبط بكبر او صغر هذه الحصة التي ستحصل عليها "المنطقة العزيزة" من الوطن!
لكن صاحبنا المناطقي الذي سنثبت له هنا ان "المناطقية" شر عظيم .. سيجد نفسه يبدأ بالحديث الحماسي المدافع عن "حصة المنطقة" حتى اذا ما حصل عليها سيجد نفسه وبمن حوله من أبناء منطقته, وقد دخلوا في حديث "قبلي" من ذات النوعية الباحثة عن الحصة, وهي تتحدث بنفس قبلي عن "حصة القبيلة" وتمثيلها في هذا الوطن , واذا ما تم إرضاء المنطق القبلي بقسمة مرضية, لن يلبث صاحبنا برهة الا وقد انبرى له من يتحدث عن "حصة العشيرة" التي ضاعت باسم القبيلة الكبيرة التي هضمت حقها وهمشتها! .. وما عليه في هذه الحالة إلا ان يستخدم ما اخترعه وشرع له نهج "المحاصصة" الكارثي في لبنان أو في العراق, لكي يجد لصاحب العشيرة حصته من هذه (الغنيمة – الوطن) ! .. وسيكون مخطئ هذا المسكين ان هو ظن أن "قسمة الوطن" قد انتهت عند هذا الحد! على اعتبار ان صوت "الأسرة" داخل العشيرة سيرتفع عاليا بذات الرتم البكائي المتظلم الذي سيقسم بأغلظ الأيمان انه لن يقبل ان يكون "كبش فداء" وعلى هامش القسمة وانه لا يمكن الا ان يكون ممثلا في الوطن وفي "تقاسمه" شأنه في ذلك شأن غيره ... وهكذا سيجد صاحبنا "المناطقي" نفسه وقد انتهى به الحال الى البحث عن "حصته الشخصية" داخل أسرته الصغيرة .. وهو في هذه الحالة سيكون قد بدأ الحديث دفاعا عن محافظته ثم انتهى به الحديث دفاعا وبحثا عن نفسه وذاته... وعلى حد قولهم ستحضر هنا بقوة عبارة "وكم با تكون يا وطن"!
ان هذه المحاصصة التي تتوزع الوطن باعتباره "غنيمة" قابلة للقسمة على الجميع لا يمكنها ان تصنع "مجتمع مدني" في اي وطن كان , لأنها تكرس وتعمق وجود "المجموعات العضوية" الاجتماعية كالمنطقة والقبيلة والعشيرة والأسرة , ونحن نعلم تماما ان العملية الديمقراطية تشترط لنجاحها – من ضمن ما تشترط – وجود مجتمع مدني يتحرر فيه الفرد من قيود المجموعات العضوية, لكننا ونحن نتحدث عن الديمقراطية ونسعى لها نصنع على ارض الواقع كل ما يعيقها عن الحضور في واقعنا ومستقبلنا المنشود, وأهم ما يعيق حضورها و نموها وجود فكر (مناطقي – قبلي) من هذه النوعية التي نتحدث عنها. كما ان الفكر المناطقي - القبلي يمنع "التعددية السياسية" التي تفترض وجود أحزاب وهيئات تتنافس فيما بينها وفقا لما تملكه من "تصورات ورؤى" لكيفية تحقيق ((مصلحة الأمة)) ككل. وهي أحزاب سياسية تحتشد في عضويتها مواطنين من مختلف محافظات ومناطق الوطن! فكيف يمكن لهذه الأحزاب ان تحقق هدفها الأساسي في التنافس من اجل مصلحة الأمة ككل في حين كان أعضائها يتنافسون فيما بينهم على كيفية تحقيق مصلحة المناطق التي ينتمون اليها؟!.
ان الفكر المناطقي يعتبر من وجهة نظري الشخصية ابتزاز للحس الوطني الرفيع, وهو سلوك يدخل صاحبه دون ان يشعر في متاهة تبدأ ولا تنتهي إلا بالحديث عن مصلحته الشخصية فقط.
لكنه من المهم ان نؤكد ان الفكر المناطقي لا يعني ان نكف الحديث عن النظام الفيدرالي في إطار المحافظات الذي يكفل لكل محافظة ادارة كافة شئونها الداخلية من قبل أبنائها. مع التأكيد ان صاحب الفكر المناطقي سيبقى عائقا حتى في هذه الحالة التي تحصل فيها المحافظة على صلاحيات مطلقة في إدارة كافة شئونها على مختلف المستويات , على اعتبار انه بذات النهج والعقلية سيجد نفسه وقد دشن طريق البحث عن ذاته حتى في إطار المحافظة.
أحمد عمر بن فريد