في مقال للشاعر الثائر الأديب المرحوم عبدالله البردوني ، نشرته "مجلة الجيش" اليمنية عام 1972م تحت عنوان : "حين يحكمون وحين لا يحكمون " ، اقتبست منه للقارئ الكريم الفقرة التالية :
" في يوم ال26 من سبـتمبر تقدمت أسماء تعلن عن تأييدها للثورة نيابة عن تنظيماتها وقدمت اقتراحاتها . وقد لوحظ يوم الثورة أن تسمى الحكم ( بإسمين ) " الجمهورية اليمنية " من الساعة السادسة حتى الثــامنة ، و" الجمهورية العـربية اليمنية" من ثامنة يوم الثورة إلى اليوم . وكان وراء هذه الظاهرة الصغيرة زحام تنظيمي على التسمية بمقدار ما كان الصراع على كيفية المسمى بعد أربع سنوات من قيام الثورة .. وقد تأخر هذا الصراع على كيفية المسمى بفعل الحروب التي تكاثرت فيها الأطراف وتزايدت فيها الأهواء .." .
لقد كانت عدن ملاذاً آمناً لمن تضرر من تلك التقلبات في سلطة اليمن ، قبل الثورة وبعدها ، وملاذاً للهاربين من بطش شيوخ قبائلهم ، بالإضافة إلى أنها كانت تمثل مركز جذب للعمالة اليمنية والطلبة ، فزادت معدلات هجرة العمالة اليمنية إلى عدن ، ومعظمها كانت على شكل عائلات ، إلى الحد الذي نشأت فيه ظاهرة ( يمننة العمالة في عدن ) في كثير من مجالات العمل ، بحكم نسبة كثــافتهم في عدن ، منذ ثلاثينات القرن الماضي . وعندما تكونت الأحزاب السياسية التحررية في عدن ، التي شكلت الحركة العمالية رافداً لها ، حيث شجع على ذلك المد الثوري القومي العربي اليساري ، فـكان ل( عـدنيين اليمن ) حضورهم في النقابات العمالية ، وبالتالي في الحياة السياسية الجنوبية بخلفيتها القومية .
وقد أستطاع عبد الفتاح إسماعيل الجوفي ( الذي ينتمي إلى محافظة الجوف شمال اليمن ) أن يقود انقلابا على السلطة التقليدية في عدن ، في 22 يونيو 1969م ، ليظفر بزعامة التنظيم السياسي للجبهة القومية . ولقد قال الجوفي ، في خطابه الافتتاحي لأعمال المؤتمر الخامس للتنظيم السياسي الذي أنعقد في الفترة 2-ـ6 مارس 1972م :
" إن نجاح هذه المهمة التاريخية ( يقصد بذلك المؤتمر الخامس ) لا يقـتصر على النطاق اليمني ، وإنما سيلعب دوراً أساسيا في أن يكون اليمن مركز إشعاع لساحة الجزيرة والخليج .. يرشد ويضيء طريق الثورة لجميع المناضلين والتقدميين في هذه الساحة التي تشهد مداً ثورياً زاخراً باستمرار ."
وبعد حرب 1972م ، الذي قامت به الجماعة الحاكمة في الجمهورية العربية اليمنية آنذاك ، على جمهورية الجنوب ، كرد فعل على نتائج المؤتمر الخامس للجبهة القومية ، جاء لقاء عبد الرحمن الإرياني- رئيس الجمهورية العربية اليمنية ، وسالم ربيِّع علي- رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، في 28 نوفمبر 1972م في طرابلس .
وأكدا الرئيسان حينها على أن "يقيم الشعب العربي في اليمن دولة واحدة تسمى الجمهورية اليمنية"، وأن يكون "للجمهورية اليمنية علم واحد ذو الألوان الثلاثة الأحمر فالأبيض فالأسود"، وأن تكون "مدينة صنعاء عاصمة الجمهورية اليمنية"، ويكون "الإسلام دين الدولة ، والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".
في عام 1978م ، تولى المقدم علي عبد الله صالح منصب الرئاسة في الجمهورية العربية اليمنية ، فيما تولى عبد الفتاح إسماعيل منصب الرئاسة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، وفي السنة الأولى من توليهما السلطة اندلعت ثاني حرب بين الدولتين ، على خلفية نتائج المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي الذي تكون من دمج الأحزاب اليسارية في الجمهورية العربية اليمنية ( حزب حوشي ) بالتنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بقيادة عبد الفتاح إسماعيل الجوفي ، لكن الزعيمان ألتقيا في قمة الكويت في 30 مارس 1979م ، وكلاهما من الجمهورية العربية اليمنية ! ، للتفاوض على صيغة الوحدة بين الدولتين .
وفي قمة الكويت التي مثــّل فيها عبد الفتاح رئيساً لدولة الجنوب ، وفي نفس الوقت أيضاً ، قائداً للمعارضة اليسارية الشمالية التي لجأت إلى الجنوب وشاركت فعلياً إلى جانب عبد الفتاح الجوفي في قيادة الحزب والدولة الجنوبية ، حيث كانت القيادات العليا في الحزب الاشتراكي تتكون في معظمها من عناصر شمالية ، التي بوجودها تقرر مصير الجنوب لاحقاً !! . وقد عاد الجوفي من الكويت متحمساً لمشروع وحدة اندماجية فورية ! ، لكن القيادات الجنوبية رفضت التسرع في الوحدة ، فأدى ذلك الخلاف إلى إخراج الجوفي من قيادة الحزب والدولة إلى المنفى ، وعند عودته إلى عدن بعد أربع سنوات ، وصلت الخلافات والصراعات على السلطة وعلى كيفية الوحدة ، أوجها في مذبحة 13 يناير 1986م ، التي تم فيها تصفية من تبقى من القيادات الشرعية الجنوبية ، من كلا الطرفين الجنوبيين المتصارعين ، وتشريد بعضهم ! .
بعد حوالي 4 سنوات من تواجد علي ناصر محمد (الرئيس السابق للجنوب ) في صنعاء ، وصل علي عبد الله صالح إلى عدن في 30 نوفمبر 1989م إلى عدن لحضور احتفالات عيد استقلال الجنوب – بعد أن وعد أركان نظامه بمفاجأة سارة سيعلن عنها من عدن - فجلس مع أمين عام الحزب الاشتراكي علي سالم البيض في منزله ... وهنا سأقتـبس كلمات (شــاهد عيان) ، هو يحيى الشامي عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي من مقابـلته مع صحيفة "الجمهورية " في 19 يونيو 2010م ، عن دورهما هو وجار الله عمر ( وكلاهما من الشمال - حزب حـوشي ) ، التي أشار فيها :
"وقد فوجئنا ، الشهيد جار الله عمر وأنا ، أن البيض وعلي عبد الله صالـح كانا فــي انتظار صياغـة بيـان الـ 30 نوفمبر 89 ، حيث كلفا الأخوين راشد محمد ثابت ويحيى العرشي بصياغته ، وكانت المفاجأة لنا أن البيان بعد ان قرئ تضمن الإشارة إلى تحقيق وحدة البلاد بطريقة اندماجية . وبصراحة فقد كان الشهيد جار الله عمر من العناصر داخل الحزب الاشتراكي التي كانت تدفع وبقوة بهذا الاتجاه .. وكان الشهيد جار الله عمر يقول إن كل الشروط تفرض علينا أن نتحرك بأسرع ما يمكن نحو تحقيق وحدة البلاد ...
يومها جاء الأخوان راشد محمد ثابت ويحيى حسين العرشي ( وكلاهما من الشمال ) ومعهما البيان ثم تحركوا الأربعة إلى المعاشيق لإعلان بيان 30 نوفمبر ، وفي اليوم التالي عقد المكتب السياسي للحزب اجتماعاً له ، كرس لمناقشة ما حدث ، خاصة انه كان قبيل ذلك تجري مناقشات في الحزب حول صيغة الوحدة بشكل غير اندماجي . وقال علي البيض يومها لأعضاء المكتب السياسي : « لكم الحق في أن تتخذوا القرار الذي ترونه حتى لو كان ضدي أنا » ، وأتذكر أنني تدخلت يومها وقلت إن الرجل مكلف بمناقشة موضوع الوحدة واعتقد انه في ظروفنا نحن ك (يمنيين) الحديث عن أية صيغة أخرى غير الاندماج ، لن تلقى القبول".
فهاهي تلك الوحدة التي اُعلنت برغبة وخطة يمنية (شمالية) ، على أساس اتفاقية من 6 نقاط عامة فقط ، بين الرئيس علي عبد الله صالح وبين الحزب الاشتراكي الذي مثله حينها علي سالم البيض بعد قرار المكتب السياسي للحزب الذي كان مكون في معظمه من العناصر الشمالية ، في غفلة من الشعب ، قد أنحلّت في خلال 4 سنوات ، وانتهت مع بداية الحرب التي شنها الشمال على الجنوب بمساعدة حزب حوشي والإخوان المسلمين بمن فيهم عناصر القاعدة (الأفقان العرب) ، بتخطيط مسبق لها ، وأعلن خلالها البيض عودة دولة الجنوب إلى وضعها السابق ، ثم فـــرّ بعد ذلك مع قيادات حزبه الجنوبيين وقيادات حزب الرابطة إلى المنفى كالدجاج ! ، ليعلن بعدها المنتصر في الحرب ، " عودة الفرع إلى الأصل " ، وكأنها لم تكن دولة في الجنوب ! .
بقلم: د. عبيد البري
عدن