في مقال سريع شديد التناقض ساق لنا نائب السفير الألماني أفكار تتعلق بالقضية الجنوبية فقدَّم في مستهل كتابته ،بان الوحدة التي سعى إليها الجنوب أصبحت الآن مفروضة يكرهها الجنوبيون الذين أصبحوا يطالبون باسترداد حقوقهم .
وهذا بالطبع يعكس الواقع الحقيقي حيث لخص الكاتب صلب الإشكالية القائمة في رفض شعب الجنوب للوحدة المفروضة ،
لكن الكاتب عاد يشرِّع هذا الوضع من خلال رؤيته بان الجنوب قد ربط نفسه بالتصويت على الدستور .. فأغفل بذلك أن شنَّ حرب عام 94 التي تشكل على أثرها واقع سياسي مغاير تماماً للمبادئ التي قامت على أساسها الوحدة قد أنهت حقيقة الوحدة الطوعية وألغت الشريك الآخر بل وغيبت شعباً بثقافته ومكتسباته المدنية وأقصت كافة النخب والكادرات التي انتسبت يوما ما لدولة الجنوب بينما هيمن الطرف الأخر على كل مفاصل الحياة .
إن الدستور الذي صوت عليه الجنوبيون لم يشرًّع للحرب وهيمنة طرف على آخر بل بالعكس فقد كان إعلان الحرب تجميداً للدستور وكل الاتفاقات المبرمة حيث تم تقويض كل الأسس القانونية والأخلاقية لدولة الوحدة التي لم يمض على إعلانها غير أربع سنوات تخللتها أزمة سياسية عميقة تفككت عندها كل الأواصر بين الطرفين .
أما إشارة الكاتب بان (البيض قد خالف الدستور حين أعلن فك الارتباط ) فقد كانت عبارة مبتورة تشق كبد الحقيقة لتغيِّب النصف الذي يحمل الدلالة المطلقة لسببية الإعلان ، وهي الحرب التي أحرقت كل الاتفاقات والدساتير وأحرقت بداخل النفوس تاريخاً طويلاً من المشاعر الوحدوية .
ان الحقيقة التي يدركها العالم بان الدساتير والانتخابات في الأنظمة الغير ديمقراطيه والتي تحكمها دكتاتوريات منذ عقود عده ليست سوى مسائل شكليه يكيفها الحاكم كيف يشاء ولم تكن الشعوب العربية قد أيقنت بان الدساتير تمثل مرجعية حقيقية يتم العمل بها في جميع مناحي الحياة ، ولهذا أطاح الربيع العربي بأنظمة الحكم وهيئاتها التشريعية ودساتيرها وسعى لإعادة صياغة الحياة السياسية بمجملها على أسس ديمقراطيه حقيقية . اذاً ليس من المنطق القول بان الجنوبيين قد وضعوا الحبل حول أعناقهم بمجرد أنهم صوتوا للدستور وعليهم البقاء حتى تأذن لهم السماء او ينهون أعمارهم دون ذلك.
إن مشروع الوحدة اليمنية كان مشروعاً سياسياً إستراتيجياً كوسيلة للاستقرار والتنمية والتكامل ويعلم العالم ان هكذا مشروع تاريخي يجب ان يستند إلى قيم راسخة في المجتمع كالديمقراطية ، والحرية ، والعدالة الاجتماعية ، وحقوق الإنسان ، ووجود دولة مدنية يسودها النظام والقانون ، ودستور حقيقي ، وجيش وطني يحمي الدولة وليس النظام ، وسلطة منتخبه يتم تبادلها سلمياً ، ولا يمكن ان يتم دمج دولتين من خلال مشاعر الأخوة والود ، وهو ماتم بالفعل ، ولأنه من الاستحالة بمكان ان يُبْنى حلمٌ سياسي بقرار رئيسين في غياب كافة الشروط الضرورية لاستمراره فقد انهار على ارض الواقع وتم إجهاض الوحدة في أولها واتضح ان الحلم السياسي كان تصميم هندسي هش على الورق دون أرضية حقيقية لتحويله إلى واقع ، فأتت حرب 94 التي وصفها الكاتب بالحزينة وهي في الواقع كارثة في تاريخ الجنوب الذي وجد نفسه بعدها منهوباً مسلوباً ضائعاً وبذلك سادت الوحدة المفروضة، التي أوعز إليها نائب السفير ، حيث بدأ الجنوب يتلمَّس حضوره الباهت في الحياة اليومية بمشقاتها وغيابه الواضح في دوائر الفعل السياسي والاقتصادي ، تشتت كوادره في الخارج والداخل واستكانت نخب واسعة في بيوتها وانتشر الفقر وعادت الأمية بين الشباب وأصبحت فرص الحياة الكريمة في مهب الضياع والفوضى . وهنا سيكون الحديث طويل وجارح لا يدركه دبلوماسي غربي يتحدث من على ارتفاع شاهق ، و يستمد معلوماته من تقارير استخبارية وجلسات نخبوية ودِّيِّه .
وفي سياق آخر تحدث الكاتب عن ان الأخ الرئيس أشار انه لا خطوط حمراء في الحوار ، كما أورد عن رئيس الوزراء بان طرح مسألة الانفصال لاتشكل عائقاً أمام الحوار، لكنه أستدرك بان المجتمع الدولي يؤكد على بقاء الوحدة ، وبهذا أعاد السقف الذي أزاحه الرئيسان ليصبح بذلك جهة دبلوماسيه يمثل العالم في وضع سقف الوحدة لأي حوار قادم .
أمر غريب ! فالواضح ان اليمن تحت الوصاية الأممية لكنه ليس من الواضح ان تصل الوصاية حد الإملاء القهري لتضع عائق أمام حوار ، لا زال في دائرة الجدل ، كان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة قد حرصا على إزالته ، فلربما كان ذلك دليلاً كافياً بان الدبلوماسية الغربية قاصرة في فهم تفاصيل الأوضاع السياسية وتنطلق من مفاهيم عامه وفقاً لتوجهات بلدانهم ، وهناك تاريخ طويل لإخفاق الدبلوماسية الغربية في كثير من البلدان العربية وقصور مؤلم في مساهمتها بتكوين رأي رسمي لدولها حول قضايا المنطقة حيث ساهم هذا القصور في أحداث زلازل كبيرة في المنطقة نعرفها جميعا وكانت الدوائر الغربية لا تقيم وزناً للشعوب المقهورة ولم تستطع رصد درجة الاحتقان المشحون بالغضب حتى ان الربيع العربي انطلق كالحريق دون ان تتوقعه تلك الدوائر ولم يتبادر إلى ذهنها أبدا حتى أنها وقفت في بادئ الأمر مأخوذة مرتبكة متناقضة في مواقفها فسلكت مسالك مختلفة وهي على عجلة من أمرها .
لقد تحدث صاحبنا عن القانون الدولي في تقرير المصير وممارسته بأنه يحفظ سيادة الدول وحدودها ونسي او تغافل ان العالم فرض فصل جنوب السودان خلافا لدستوره وهو دولة واحده منذ المنشأ وساعد على انفصال اريتريا من إثيوبيا باتفاق بينهما وانفصلت أجزاء من البلقان والتشيك رغم دساتيرها وحدودها القديمة وبالرغم من الدستور الفدرالي الكندي الا ان تلك الدولة سمحت لمقاطعة كيوبك بالاستفتاء حول بقائها او انفصالها . ولا أتوقع ان سعادة الدبلوماسي الألماني ،الذي نصب نفسه مشرِّع ومحكِّم ، بأنه لا يدرك كل تلك النماذج وغيرها .
ربما على قارئ المقال الذي كتبه نائب السفير بالعربية ان يغفر له ما كتب عن ان شعب الجنوب قد ربط نفسه بشعب الشمال لان هذه الفقرة تحمل إشارة لها معاني عده غير تلك التي أوقعته اللغة العربية خارج دلالتها ، فالجنوب لم يربط نفسه بأحد بل ذهب طوعاً إلى وحدة متكافئة تقوم على قيم ومبادئ غير تلك التي سنَّتها وشرَّعتها حرب 94 .
وعلى الكاتب ان يدرك بان الشعوب لم تعد قاصرة فمكَّة أدرى بشعابها ولا يمكن ان تأتي الحلول من الخارج الا مساعِدَةً والشعوب أصبحت واعية لمفاتيح الاستقرار الحقيقي الثابت والذي يقوم على مبادئ العدل واستعادة الحقوق ورفع المظالم وتمكينها من تحقيق مصائرها سلمياً فالجنوب والشمال بحاجة إلى تكامل استراتيجي في السياسة والاقتصاد والأمن في ظل قيم جديدة وليسا بحاجة إلى توحيد نظام سياسي يقوم على أساس هيمنة طرف على آخر عن طريق الاستقواء والإلغاء .
ان اليمن ليست المانيا التي أتى منها الكاتب وهو يدرك كيف تمت وحدة الألمانيتين وكيف كان برنامج تنمية البنية التحتية وبرامج اقتصاديه باهظة الكلفة سخرتها خزينة دولة المانيا الغربية لشريكتها الجديدة ويتذكر ان احد الأحزاب الرئيسية في المانيا الغربية وهو الحزب الاشتراكي الاجتماعي (SPD) لم يؤيد فكرة الوحدة حينها حتى يتم إنعاش اقتصاد الشرقية للحيلولة دون الهيمنة الغربية على قطاع الاقتصاد التابع للدولة الشرقية والذي تم بالفعل حين انهارت الصناعات الشرقية جميعاً منذ الوهلة الأولى ، الا ما استطاع منها البقاء ، ولا زالت فئات شرقيه تحن لماضيها. وبالرغم من ذلك فان وحدة المانيا قامت على التضامن والتضحية بأموال طائلة لرفع كفاءة الشريك الضعيف الذي دخل في الاتحاد الفدرالي بشكل ديمقراطي طوعي بعد الانتخابات التي أعقبت سقوط النظام الشرقي ولم تقم الوحدة من خلال اتفاق زعيمين جمعتهما المشاعر في لحظة لبست السياسة فيها ثوباً رومانسياً ، ولم تكن هناك حرب ساد فيها جزء وتلاشى آخر.
وحين تصبح المسافة بين المانيا واليمن تقاس بالسنين الضوئية فان الاحتكام للعقل في إي طرح يصبح من الحكمة .
إن الدبلوماسية بأحاديثها وآرائها حول وضع مأساوي يعيشه شعب إما ان تكون إنسانيه ذات قيم ومبادئ تناصر حق الشعوب في الحرية والحياة الكريمة ، او تصبح كحزمة الأصوات الكهربائية الصادرة من جوف الإنسان الآلي كيفما شاءت برمجته ، وهذا بالطبع معيب حتى لو اسْتُشْهِدَ بكل فقرات القانون الدولي والكتب المقدسة ، لأنه يصبح قول يصعِّد الغضب ويرسخ عدم الثقة . ولا يمكن لأحد ان يتوقع بان القانون الدولي كجلمود من الفقرات المتحجرة تصد عنها تطلعات الشعوب المكلومة كما أنها لن تكون منظومة أحجيات يتم تفسيرها بمعايير مختلفة كيفما اقتضت توجهات الدول الكبيرة .
ان احد لا يصدق بان دبلوماسي يستبق كل شيء ويقدم تفسيراً للقانون الدولي معتقداً بأنه قد وضع حداً لتطلعات الجنوب بل ناصحاً بان على الجنوب ان يتجرع المُر ويستكين لمشيئة الأقوياء . لكنه تناسى انه بقوله ذلك قد وضع مسألة الحوار جانباً وان السقف الذي حرص الجميع على إلغائه قد أعاد بناءه.
ان علينا ان نتمنى بان نائب السفير الألماني لا يمثل توجهات دولته بكتابته تلك لان ما يسعى لتقديمه بشكل دائم سيبقى في ذاكرة أبناء الجنوب الذين يحرصون على ان تبقى دولة المانيا صديقه في الحاضر والمستقبل . فلا يعتقد احد انه قادر ان يضرب سياجاً حول إرادة إي شعب مهما كان عتيا.