قيادات فوق العادة
كتب/عبده النقيب*
يمر الحراك الجنوبي في لحظة حساسة وحرجة من عمره حيث يتعرض للمؤامرات الداخلية والخارجية التي تهدف إلى تمزيقه ووأده حتى يخلو الجو لسلطات الاحتلال اليمني من استكمال عملية النهب للثروة واستكمال عملية التغيير الديموغرافي وطمس كل ما يمت بصلة للجنوب وهويته وتاريخه الأصيل.
مثّل الحراك الشعبي والجماهيري الجنوبي الصخرة التي تحطمت عليها كل المؤامرات والمخططات اليمنية ما ظهر منها وما بطن بما في ذلك الحملات العسكرية التي طالت قرى ومدن الجنوب بشكل متواصل منذ أن تم اجتياح الجنوب عسكريا في يوليو 1994م. كما أن كل الممارسات الهمجية للاحتلال اليمني التي طالت الإنسان الجنوبي وهويته والتي تعددت أشكالها وحلقاتها كتغيير المعالم الأثرية ومحو العادات والتقاليد ونشر ثقافة غريبة عن ثقافة الجنوب وتاريخه بما في ذلك محاولة فرض شكل العمارة والملابس وتغيير الأسماء وتزوير التاريخ في المناهج الدراسية وغيره, كل تلك المحاولات باءت بالفشل بل أنها أيقظت الوعي الوطني الجنوبي ودفعت بالجنوبيين للتمسك بهويتهم وعاداتهم وتقاليدهم بشكل مذهل.. كما أن تلك الممارسات صقلت حاسة الاستشعار بالخطر ووضعت مخططات الاحتلال تحت المجهر فكشفتها و حاصرتها.
لقد أضحى هذا بديهي لكل جنوبي بل وأن أمر معاناة شعب الجنوب قد صار معلوما لدى شعوب الإقليم والعالم بفضل الحراك الجنوبي في الداخل والخارج وبفضل عزم الجنوبيين وتضحياتهم اليومية من اجل التحرر واستعادة الدولة وصارت أخبار ثورة الجنوب في كل وسائل الإعلام الدولية المختلفة.
بعد تجربة طويلة وأعوام من الكفاح تتشعب مهام الثورة في الجنوب وتزداد معها أساليب القمع والتنكيل والمعاناة والتضحيات وهو ثمن يدفعه شعب الجنوب دون تردد.. وفي مراجعة للماضي وأحداثه نلاحظ أن سلطات الاحتلال وقواتها المختلفة قد فشلت في كبح الثورة بل ان القمع يزيد الثورة قوة وعنفوان, لهذا نراها اليوم تراهن بقوة على ضرب الثورة من داخلها.
ليس غريباً ان الثورات تنتهي لأسباب ذاتية فهي إذ تهزم أعتى الإمبراطوريات وأشرس الأعداء لا نراها تستطيع التغلب على مشاكلها ونواقصها الذاتية. لست مبالغا فيما أقول ولن اذهب بعيدا للبحث عن نماذج يمكننا أخذ العبرة منها فالثورة في الجنوب تعرضت للتآمر من أول وهلة بدءاً من مؤامرة سلب الهوية وإقصاء القوى الوطنية الجنوبية ومن ثم التخلص من قادة الثورة واحدا بعد الآخر حتى تم في الأخير شق وتمزيق الثورة بل والجنوب نفسه.
ورث الجنوب عن الاستعمار البريطاني نظام إداري ومالي متطور وجيشاً مدرباً مثلا نواة لنظام سياسي قوي يشار له بالبنان, لكن الثورة فشلت في إيجاد نظام حكم يستطيع أن ينطلق نحو المستقبل فكان أسوأ نموذج في الإدارة السياسية التي يمكن أن تحكم بها أي بلد, حيث تعرض الجنوب بسبب تعثر تلك الإدارة التي لم تفشل في تجنب سقوط التجربة السياسية والاقتصادية فحسب بل أنها عرضت الوحدة الوطنية الجنوبية لشقوق خطيرة وأصابت النسيج الاجتماعي بالتمزق الشديد كما حصل في الحرب الأهلية في يناير 1986م.
لقد أدت الصراعات الدموية المتتالية الجنوبية الجنوبية في نهاية المطاف إلى تدمير البلد واسترقاق أهله كعبيد في سوق النخاسة اليمني وهي حقيقة صارت ماثلة لنا اليوم رغم ان الجنوب يمثل وحدة اجتماعية وثقافية ونفسية متجانسة قلما يتمتع بها أي بلد, أكد تلك الحقيقة هذه الوحدة الجنوبية المتينة اليوم في مواجهة محنة الاستعباد اليمني لأبناء الجنوب.
كما تشير الشواهد التاريخية إلى حقيقة أكثر أهمية تتعلق بالدور الخطير الذي تلعبه أنظمة الحكم في المجتمعات المتخلفة اقتصاديا وثقافيا إما في تمتين عرى النسيج الاجتماعي والوطني أو في تمزيقه كما في نموذج الجنوب العربي والصومال, هنا يأتي أهمية الحديث عن شكل النظام السياسي وإدارته السياسية في بلدنا بدءاً من إيجاد إدارة سياسية تقود الثورة وتخطط لها وصولاً إلى تحرير الجنوب من الاحتلال اليمني ومن ثم إنشاء نظام سياسي وطني يقود البلد نحو التنمية والتغيير الإيجابي كما حصل في بعض البلدان المتخلفة كعمان ودولة الإمارات العربية المتحدة.
لاشك أننا اليوم أمام مراجعة شاملة لأخطاء الماضي وأهمها تجنب تسليم زمام الأمور لتلك القيادات التي تفتقر لأبسط المواصفات ومنها التي أثبتت فشلها في كل المراحل أو التي ارتبطت بصراعات الماضي الشمولي وتحمل في داخلها إرث يصعب التخلص منه بيسر وسهولة, إن اختيار قيادة للثورة تقوده إلى بر الأمان وتقود عملية التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يجب أن تخضع لمبادئ ومقاييس علمية بعيدة عن الحسابات الأنانية الضيقة تضع مصلحة البلد فوق كل الاعتبارات وتؤسس تقاليد وثقافة جديدة بعيدة عن العنف والصراعات الدموية كوسيلة للتغيير.
لم أعد بذاكرتي لتلك الأحداث وتاريخ التجربة الجنوبية عبثاً بل أني أرى أن الكثير من الجنوبيين لم يتعلموا من دروس الماضي بما يكفي وهذا يجعلنا معرضين لتكرار الخطأ والمآسي وتعريض الثورة للخطر.
إن الثورة والمهام الماثلة أمامها لن تقتصر على تنظيم المسيرات وكتابة البيانات فحسب بل إن مهام أكبر وأهم يجب أن تنجز وخاصة في إيجاد قيادة أمينة كفوءة ترتبط بنبض الشارع مباشرة تولد وتترعرع في خضم المعركة والمعاناة, جديرة بأن تعبر عن هموم وتطلعات أبناء الجنوب, علينا أن نعترف أننا أخفقنا حتى اللحظة في إنجاز هذه المهمة الضرورية بل وأنها نقطة ضعف الحراك الجنوبي بكل مفاصله وهي الثغرة التي يحاول نظام الاحتلال اليمني التسلل عبرها لضرب الثورة من داخلها وبأيدي جنوبية.
علمتنا تجربة السنوات الماضية منذ سقوط الجنوب في قبضة الاحتلال اليمني أن معضلة الحراك الجنوبي هي في ثقافة الاتكال والعجز التي تشبعنا بها خلال عقدين ونيف من الزمان هي عمر الدولة الجنوبية تعلمنا خلالها أن لا قيادة سوى لأولئك الذين وصلوا إلى السلطة واحكموا قبضتهم عليها وسدوا عن غيرهم كل الطرق والمنافذ المؤدية إليها سوى طريق الدبابات والقتال, بقى أن من هو في السلطة لا يمكن تغييره بمن هو أكفأ وأجدر حتى ان الأغلب ظلوا وزراء منذ يوم التحرر عن بريطانيا في نوفمبر 1967م إلى يوم أم الهزائم في 7 يوليو 1994م بل وأن البعض منهم مازال محتفظاً باللقب والمنصب كوزير مع وقف التنفيذ حتى هذه اللحظة.. هذه الثقافة التي تشبعنا بها ونعاني منها حتى اليوم قتلت المبادرات الفردية والإبداع والتفكير إلى أن تجمد العقل وانسدت المنافذ فكانت هزيمة 1994 م هي حصيلة لتلك الثقافة المشوهة والعجز عن استيعاب المتغيرات والتعاطي معها.
هكذا نجد أنفسنا اليوم في وضع يكاد يشبه حالنا في الماضي, لقد أبدعنا في تفجير الثورة وأذهلنا العالم في عزمنا وإصرارنا في مواجهة آلة الحرب الجهنمية بصدورنا العارية دون خوف أو وجل حتى هزمناها شر هزيمة.. لقد استطاع نظام الاحتلال اليمني أن يوقف الحروب المتتالية لشعب صعدة ومليشياته المدربة على القتال في أصعب الظروف ولكنه فشل في إيقاف الثورة الجنوبية السلمية, لقد كبدت حرب صعدة النظام اليمني خسائر كبيرة في الأموال البشر ووضعت الدولة خطة لتعويض تلك الخسائر رغم ان الدولة لا يهمها ما تعرض له شعب صعدة ولن أجافي الحقيقة إذا قلت أن حرب صعدة كانت عبارة عن مصدر للاسترزاق والتكسب واستيراد وبيع الأسلحة بالنسبة لبعض مراكز القوى في السلطة.. لكن هذه السلطة لا تستطع تحمل أعباء الحرب اليومية المستعرة في مواجهة الحراك السلمي الجنوبي.. لقد أصابها الحراك في مقتل كونه يشمل الجنوب بطوله وعرضه. استطاع شل حركة نظام الاحتلال اليمني وتقطيع أوصاله في مناطق الجنوب وفتح أبواب الجحيم على السلطة, أنهكها سياسياً واقتصادياً وأمنياً ومرغ سمعتها في الوحل حتى صارت لا تستطيع الخروج منه,
هذا العمل المذهل الذي قدمه الحراك يقابله عجز خطير في إيجاد قيادة بحجم الثورة والمهام الماثلة أمامها ليس بسبب غياب الكفاءات الميدانية والقيادية بل بسبب تشبعنا بالثقافة المتخلفة والمتجمدة التي ورثناها من الحكم الشمولي المقبور.. يجترحون المآثر والبطولات ولكنهم لا يقبلوا بأن يلتفوا حول القيادات الحقيقية التي فجرت الثورة وتقودها ميدانياً, وهذا سبّب تصدع في الحراك وتشتت في الصفوف وتعدد في القيادات دون ضرورة ودون حاجة.
لقد سببت هذه الثقافة العدمية إضعاف وإحباط لتلك القيادات المتمرسة فبدلاً من ان يصنع الحراك قياداته في مجرى النضال اليومي نراه يدمر قياداته التي تتحلى بالقدرات العلمية والخبرات السياسية بل والعسكرية, هذا ليس مجرد استنتاج أو تحليل بل إنها حقائق فمازال الشارع الجنوبي يهتف بأسماء وقيادات ليس لها أي علاقة بالحراك ولا تخفي تآمرها عليه في السر والعلن.
هذا العجز وهذه الثقافة الشمولية هي التي فتحت الباب على مصراعيه لتجار السياسة ووضعت الثورة في مهب الرياح.. ليس غريبا أن يأتي اليوم من يساوم ويقاول على الحراك في الداخل والخارج.. فبعض القيادات لاحظت هذا الفراغ وبدأت تتحفز للانقضاض على مقاعد قيادة الحراك وهذا ما يفسر صحوة بعض القيادات الاشتراكية في الداخل والخارج بعد نوم عميق لتقدم نفسها مرة أخرى كقيادة للجنوب.. ليس غريباً أيضا أن تلك القيادات هي التي تتاجر بالحراك في الداخل والخارج فمن مؤتمر الحوار الوطني مع أحزاب اللقاء المشترك في صنعاء إلى مؤتمرات الغرف المغلقة في دبي والقاهرة وكلها جميعاً تسير باتجاه بيع الحراك ويمننة الجنوب.
لاشك أن الحراك لو كان قد استطاع أن يختار قياداته الميدانية في الداخل لكان اليوم في أفضل حال ولكان اليوم أقرب إلى النصر منه إلى الهزيمة.. لكن ثقافة العجز وعقدة النقص جعلت الحراكيون يتطلعون من أول وهلة للقيادات المهزومة في الخارج فبدلاً من أن يصنعوا لهم المعجزات مزقوا لهم الحراك فرق وجماعات.. إنها مأساة هذه التي نعيشها اليوم, كيف وفي زمن السقوط ننهض من تحت الأنقاض ونفجر ثورة عجزت عن مواجهتها كل آلات القمع والقتل والأموال ثم نذهب لنبحث عن قيادات هزمت وطن وخذلت شعب تبحث عن السلطة ولو على أنقاض الحراك.. وهل عجز الجنوب عن أن يصنع قادة لهذه المرحلة مشبعة بالثقة خالية من عقد الهزيمة.. متى يدرك الحراكيون أن أغلب القيادات السابقة هم جزء من المشكلة وليسوا جزءاً من الحل كما نتوهم.. متى يدرك الحراكيون أن القيادات السابقة لا يستطيعون التخلص من السلوك المتأصل فيهم ومن التفكير بأنهم هم القيادة الضرورة والاستثنائية, ألم نراهم لسنوات مضت في صنعاء يعيشون في رغد العيش في كنف رئيس الاحتلال سلطة ومعارضة مقابل ما يقومون به من عمل تخريبي بين أوساط الحراك في الداخل, ونراهم أيضا في الخارج يعقدون اجتماعات سرية وفي غرف مغلقة في فنادق دبي والقاهرة دون تفويض يساومون سلطات الاحتلال ممثلة بالمشترك على الحراك وهم ليسوا في واديه.. ألم نراهم وقد صاروا بين عشية وضحاها استقلاليين بعد هزيمة مشروع اليمننة.. مرحباً بهم ولكننا نراهم دون خجل يعقدون الاجتماعات السرية في الغرف المغلقة يخططون لتشكيل قيادة الحراك وحدهم.. فمازالوا يظنون أنهم الأجدر وأنهم الوحيدين الذين لهم الحق بالقيادة..هم قيادات تصلح لكل زمان ومكان وفي كل الأحوال والظروف مع الاستقلال أو مع اليمننة مع حميد أو مع البيض إنهم قيادات فوق العادة.
لابد أنهم اعجز حتى من أن يستوعبوا مباديء ومفهوم التصالح والتسامح فعلينا أن نذكرهم أن للحراك قياداته في الداخل والخارج التي شبت عن الطوق لعلى الذكرى تنفع المهزومين؟
ترى هل يفوق الحراكيون ويبنوا قياداتهم التي تستطيع الحفاظ على الثورة؟